أطلق الناشرون في الولايات المتحدة الأميركية نحو 2،050 كتاباً شعرياً إلكترونياً في العام 2014، ارتفاعاً من نحو مئتي كتاب في العام 2007.
تحوّل ليس مستغرباً في جزء من العالم تعمل أدمغته وعقوله وإمكاناته على الانتصار على المسافات والحواجز وتحطيمها. والجديد رهْبة يمكن الانتصار عليها.
لا ينجو من القفزة التكنولوجية والمعلوماتية في عالمنا اليوم شيء أو أحد من سطوتها. بعض تلك السطوة محبّبة ويتلمسها الناس بخيارهم. بعض منها يعيد تحويل الصورة والعادة وما ألِفَه الناس. يكون تحت تلك السطوة. الفنون والآداب ليست خارج تلك الدائرة. باتت اليوم في الصميم من السطوة. لم يعد "وخير جليس في الزمان كتاب" بالمعنى الورقي المتعارف عليه؛ إذ سيصبح في جزء من العالم "وخير جليس في الزمان كتاب" إلكتروني! تلك حقيقة يذهب العالم مع مرور الوقت إلى تقبّلها والاعتياد عليها، كما اعتادوا تلك العلاقة الحميمة بينهم وبين الكتاب المعتاد في هيئته الأولى منذ عشرات العقود. الرائحة التي يخلفها حبْر المطابع. ذلك التقليب للصفحات، كأنها مصافحة للكاتب نفسه قبل أن تكون تصفحاً لجهده الإبداعي والمعرفي.
التزود بالمعرفة، ذلك الذي كان يستغرق شهوراً لنسخ موسوعة أو للسفر سعياً للحصول عليها في طنجة أو الفسطاط باتت اليوم في غرفة النوم وفي السيارة وحتى دورة المياه بكبسة زر! ذلك استدراج آخر كي يتخلى جزء من العالم (عالمنا العربي ... العالم الثالث) عن الجانب المسيء والسيء من تلك القفزة التكنولوجية والمعلوماتية. أن ينتصر على فقره وجفائه للكتاب والمعرفة عموماً.
الصحافية في "إنترناشيونال نيويورك تايمز"، ألكسندرا ألتير، كتبت في 14 سبتمبر/ أيلول 2014، تقريراً حمل عنوان "سطراً سطراً... الكتب الالكترونية والتحوّل إلى حميمية الشعر"، تناولت فيه ما يدور من تحولات وتوجهات في ذلك العالم الذي لم يعد جديداً هناك. هو كذلك هنا وفي أجزاء كبرى من جغرافية ووعي العالم أيضاً. تناولت الآليات التي اتبعتها دور النشر ونشوء وعي جديد في التعاطي مع الكتاب الالكتروني. القرّاء في الصميم من ذلك. كيف تتم تهيئة الأمر لهم. هنا التقرير بقليل من التصرّف:
ذُهل الشاعر الأميركي الحائز جائزة "بوليتزر"، جون آشبيري، بداية حين علِم أن الطبعات الرقمية من شعره بدت لا تشبه شيئاً من النسخ الاعتيادية المطبوعة. لم تكن هناك فواصل بين الأسطر، وتم إرباك وتشويش كثير من المقاطع الشعرية في كتلة من النص تشبه النثر. كما تم الحد كثيراً من ذلك التوخي والحذر في بنية قصائده، وذلك ما عُرف به آشبيري. اشتكى إلى ناشره "إيكو"، وتم سحب الكتب الإلكترونية الأربعة فوراً.
كان ذلك قبل ثلاث سنوات. النشر الرقمي تطور كثيراً منذ ذلك الحين. يمكن للناشرين الآن إنتاج كتب إلكترونية تحافظ على تنسيق أفضل ودقيق لما ينتجه الشاعر. لذلك عندما فُتح طريق الإعلام الرقمي لشركات النشر، أوجدت مقاربة لآشبيري لإنشاء نسخ إلكترونية من كتبه، وقرر أن يمنح التجربة فرصة أخرى.
قبل أسابيع نشرت دار "Open Road" 17 مجموعة شعرية رقمية من أعماله، وللمرة الأولى سيكون الجزء الأكبر من شعره متاحاً في شكل كتاب إلكتروني. هذه المرة، لم يطلب سحْب أي من المجموعات.
آشبيري ذو الثامنة والسبعين عاماً، الذي يعرف على نطاق واسع بوصفه واحداً من أعظم الشعراء الأحياء في الولايات المتحدة الأميركية قال بعد صدور مجموعته "أن تقتل طائراً بريئاً" التي ظهرت في نسختها الالكترونية في 28 أبريل/ نيسان 2014: "كانت وفية للنسخة الأصلية من الكتاب في دقتها وتنسيقها".
قصيدة بيلي كولينز "حب بلا هدف" بدتْ كما أنها في حجم خط ممتد مع أسطر وكأنها توحي بمستهل.
لأكثر من عقد من الزمان من ثورة الكتاب الإلكتروني وناشرو الشعر يتدافعون لتثبيت مكان لهم في السوق الرقمية. في العام 2013، أطلق الناشرون نحو 2،050 كتاباً شعرياً إلكترونياً، ارتفاعاً من نحو مئتي كتاب في العام 2007، وهو العام الذي أوقدت فيه إنارة تلك السوق ومن ثم انطلاقها في الهيئة التي تبدو عليها من التوسع والامتداد، وفقاً لـ "بوكر"، التي تتابع حركة الإصدارات. وفي العام الماضي (2013) شكّلت الكتب الإلكترونية نحو 20 في المئة من نحو 10،000 كتاب تم نشرها، مقارنة مع نحو 10 في المئة في العام 2013.
بين جميع الأنواع الأدبية، أثبت الشعر أنه أكثر مقاومة للتكنولوجيا الرقمية، ليس لأسباب بطء أو تراجع ثقافي ولكن لأسباب ميكانيكية خادعة. معظم القراء الإلكترونيين يعتبرون أن الإفساد الذي يتم بتجاهل الفواصل بين الأسطر والمقاطع الشعرية، يعدُّ أمراً حاسماً جداً في التأثير على ظهور إيقاع الشعر، وصورته ومعناه الحقيقيين، ونتيجة لذلك، أحجم عديد من الناشرين عن رقمنة الشعر، ويعملون على تفادي كل ذلك، من خلال بعض الشعراء الرئيسيين الذين مازالت أعمالهم غير متوافرة في كتب إلكترونية، بما في ذلك بعض أعمال عزرا باوند وقصائد جوري غراهام، تريسي كى سميث، إليزابيث بيشوب وتشيسلاف ميلوش.
في المسار نفسه، قال المحرر التنفيذي بدار نشر "GrayWolf"، جيف شوتس: "المسار هو الرابط والوحدة التي من خلالها يتم السعي إلى إيصال الشعر، ومعظم تكنولوجيا الكتب الالكترونية تبدو غير محببة وغير ودية وعلى مبعدة من تحقيق ذلك الرابط والوحدة".
ولكن، كما تطورت التكنولوجيا، بدأ الناشرون بالتكيف. وقد تم توظيف بعض المبرمجين لتسليم رمز الشعر للكتب الإلكترونية بحيث تتم المحافظة على فواصل الأسطر والمقاطع الشعرية. الآخرون لجأوا إلى استخدام ملفات PDF أو ملفات ثابتة، لإعادة إنتاج الصور الرقمية من الشعر بشكل متقن مثل أعمال ماري زيبيست التي تبدو خطوط مجموعتها مشعّة بشكل ظاهري. وقد أضافت بعض مطابع الشعر إلى الكتب الإلكترونية خيارات فيما يشبه التنازلات، توصي القراء باستخدام حجم خط محدد لعرض أكثر دقة لقصيدة معينة.
"الاتجاهات الجديدة" وحدة النشر في صحيفة "الإندبندنت" التي تأسست في العام 1936، بدأت نشر كتب الشعر الإلكترونية العام الماضي (2013). حتى الآن، أصدرت أكثر من 60 مجموعة رقمية من الشعر، بما في ذلك أعمال بابلو نيرودا، ديلان توماس وويليام كارلوس ويليامز.
من جانبها، بدأت دار نشر "فارار وستراوس وجيرو" دفعة كبيرة لرقمنة إصداراتها من الشعر في يناير/ كانون الثاني الماضي؛ كي تتفادى النسيان بعد أن عملت في تخطيط شائك وترميز لعدد من الموضوعات.
وهذا العام، ستقوم الدار نفسها بإصدار 111 مجموعة شعرية رقمية، ارتفاعاً من 17 مجموعة العام الماضي، ومجموعة واحدة فقط في العام 2012.
في هذا السياق، قال المحرر المساعد في "فارار"، كريستوفر ريتشاردز: "أردنا أن نشعر بالثقة التي قطعناها على أنفسنا من أن ما يفعله الشعراء تحقق بصرياً عبر القراء الإلكترونيين قبل أن نقوم بهذه النقلة". النظرة البصرية إلى القصيدة هي مهمة حقاً، ويمكنها أن تحقق تواصلاً مع نوع من المعنى، وإذا لم يكن من خلال الحفاظ على الكتاب الإلكتروني، فأنت تخسر شيئاً حقاً".
يُذكر أن جون آشبيري، شاعر أميركي، ولد في 28 يوليو/ تموز 1927. صدرت له أكثر من 20 مجموعة شعرية، وفاز تقريباً بكل جوائز الشعر الأميركية الكبرى، بما في ذلك جائزة بوليتزر في العام 1976 عن مجموعته "صورة شخصية في مرآة محدّبة". تشتهر أعماله بتعقيدات ما بعد الحداثة والتعتيم.
تُثبت أعمال آشبيري أنها مازالت مثاراً للجدل. صرح ذات مناسبة، بأنه يرغب أن يكون عمله في متناول أكبر عدد من الناس قدر الإمكان، وألا يكون ما يكتبه حواراً خاصاً مع نفسه. قال مازحاً ذات مرة، إن بعض النقاد ما زالوا ينظرون له باعتباره "طائشاً وسيريالياً محلياً ويتحدى شعره قواعد منطق السريالية".
وضمن مئات الشهادات والإضاءات التي تناولت تجربته، كتب رئيس دائرة اللغة الانجليزية في جامعة ييل، لانغدون هامر في العام 2008: "لا يلوح رقم كبير جداً في الشعر الأميركي على مدى السنوات الـ 50 الماضية مثل جون آشبيري".