من منَّا لم يعرف الألمَ؟ من منَّا لم يُفجع في عزيز؟ من منَّا نجا من الغربة والاغتراب؟ من منَّا لم يتعرَّض لغدْر ما؟ من منَّا لم تعتمل في نفسه نار انتقام؟ من منَّا لم يضعف؟ من منَّا لم يتردّد أو يقلق أو ينهزم؟ من منَّا لم يجد قوّته في ضعف آخرين ممْعناً في التضييق عليهم في صورة أو أخرى، قلّتْ أو كثرتْ؟
من منَّا نجا من الشك؟ من منَّا لم يَمَل من محاولة الوصول إلى هدف؟ من منَّا لم ينْهَ سواه عن فعل وهو سبَّاق إليه؟ من منَّا كان قوياً أمام الإغراءات فولّى مُدبراً كي لا يسقط؟ من منَّا لم ينسَ نفسه ويعيش للناس في الوقت نفسه؟ من منَّا يعيش ليرسل الآخرين إلى الموت؟ من منَّا يكتب ليرتِّب حياة أولئك الناس، وإن جرَّت عليه تلك الكتابة شقاء لا حصر له؟ من منَّا يكتب ليشقى الناس؟ من منَّا يقبض لـ «تبسط” أجهزةٌ أجسادَ كثيرين؟ من منا «يبسْط” الحقائقَ ويكشفها وإن أدّى ذلك إلى «القبْض” عليه وسحْله في الغُرَف السريَّة؟
تساؤلات مستفزَّة سيجد كثيرون شيئاً من ذلك فيهم. تساؤلات بعدد اللحظات التي تتغيّر، والأعمار التي تذوي، والأنفس التي تتقلّب وتتبدّل، والأحلام التي تتبخّر أحياناً، وتتحقق أحياناً أخرى!
في الألم لا يشترك الناس إلا في الظاهر منه. في المواساة والعاطفة؛ لكنهم سرعان ما ينشغلون بما يجعلهم على اتصال بالفرح. الإنسان بطبعه يستدرجه الفرح، ويستدرج الفرح في الوقت نفسه. وحده الذي يعاني الألم يكون مشغولاً به، ويكاد يخنق أنفاسه. كلٌّ له ألمُه. لا ألم -بالمعنى المباشر- يشترك فيه اثنان. ألمُنا محْنتُنا ودرسنا الخاص. في الألم أحياناً تنتعش ذاكرتنا. يمنحنا قوة مضاعفة حين نتجاوزه وننتصر عليه. في الألم أيضاً بدايات القبر والموت. ليس بالضرورة أن يكون ألماً هذه المرة، ذلك الذي يمسُّ الأعضاءَ والجسدَ. ثمة أحياناً ألم يمسُّ النفس والروح يكاد يتجاوز الأول بكثير. بدايات القبر، حين ينتصر الألم على صاحبه. يحفر في الداخل قبره أولاً، قبل أن يتم حفره تهيئةً لإقامة في باطن الأرض.
وفي الغربة قدرة على صوْغ النفس والروح والقدرات والإمكانات. كثيرون هم الذين عادوا من غرباتهم كما بدأوها. عادوا إما بجهلهم أو شبْه فقرهم، وكما تركوا الذين يعرفونهم. لا جديد يعطي لتلك الغربة قيمتها، ولا ثمن في الدنيا يمكن أن يكون مقابل غربة قسرية أو اختيارية حين تحضر التفاصيل هناك. تفاصيل الناس والعلاقات والأمكنة.
وفي الغدْر تمتحن اللصيقين بك أولاً. فيه امتحانهم، وفيه قدرتك على التمييز وتعلُّم الدرس. النسيان بيت للغدْر. بنسياننا نفتح الأبواب في كل مرة للغدر كلما بحث عن مرحه وشهوته! وفي الانتقام ضعف. الذين ينحازون إلى الانتقام، هم فقراء خيار، وفقراء نفْس، وفقراء معنى. لا روح تنتصر بالانتقام.
وليس كل ضعف خسارة. كما أن القوة ليست مكسباً وغنائمَ في كل حالاتها. حين تعقلن قوتك وتؤجّلها في مواضع بعينها، فتلك قوة مضاعفة. الضعف الحقيقي حين تبرز قوّتك للذين لم تمنحهم الحياة فرصاً كالتي لديك. لا تُختبر القوة أمام الذين لا يملكونها بالمعنى المادي لها. تُختبر بالضعف أمام ضعفهم، حينها تكون هي القوة في أجْلى وأسمى صورها ومعانيها!
وفي القلق قيمة عظمى. كل الإنجاز البشري الذي تحقق اليوم انطلاقاً من محاولات تمتد لآلاف السنين، بدأ بالقلق. أعظم الإنجازات أمسِ واليوم وغداً، لم تأتِ بفعل الاطمئنان. أتت بفعل السؤال، والبحث، والتأمل، ومحاولة الاكتشاف والإثبات. إنسان من دون قلق، هو مشروع استعراض في هذا العالم. استعراض قياسه، طولاً وعرضاً ووزناً. قياس هيئة. العالم لا يحتاج إلى الهيئة. يحتاج إلى ما بعدها!
وفي الشك يُختبر اليقين. لا يقين يختبر الشك. سبَقَ الشكُ اليقينَ في الإنسان. من الشك بدأ تنظيم الحياة. لو بدأت الحياة باليقين لكانت رتيبة ومملة من أول يومها، وذلك لم يحدث. وفي المحاولة، تلك القدرة على التمدُّد في الحياة. التمدُّد في ما يجعلها أكثر رحابة واستحقاقاً. لنتخيَّل هذا العالم لو أن كل المحاولات التي بدأها الذين سبقونا هجَروها يأساً وضجراً، ولم يصرّوا على تكرارها. لكنا اليوم أحفاد سكَنة الكهوف والجبال، وأحفاد الباحثين عن الكلأ والماء في أكثر من ربْع خالٍ.
إنها تساؤلات بعدد الإغراءات التي كثيراً ما تنتصر! تساؤلات بعدد مواجهة الإنسان لأخطائه وجشعه ووهم يقينه في كثير من الأحيان. تساؤلات بحجم العذاب البشري!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4398 - الأحد 21 سبتمبر 2014م الموافق 27 ذي القعدة 1435هـ
لا تنسون الطفل
لا تنسون يا كتاب
الطفل جهاد السميع 10 سنوات اوقفو معاه لا تنسونه