حين تدخلت الولايات المتحدة الأميركية في العراق فأسقطت نظام صدام حسين العام 2003، تم وصف من تعامل مع الاحتلال الأجنبي بأنهم خونة وعملاء. بعد عقد من الزمان، وفي غمرة أحداث الربيع العربي، هناك من المعارضة السورية وغيرهم من طلب تدخلاً أميركياً عسكرياً، فوُصِفوا بأنهم واقعيون مضطرون ويحملون همّ الشعب السوري.
في الحالتين، العراقية والسورية، هناك من يطلب التدخل الأجنبي إلا أنه يوصف بالخيانة في الحالة الأولى وبالواقعية والاضطرار في الحالة الثانية. من جهة أخرى، هناك من يبرر التدخل الأميركي في العراق ويخوّن من يلجأ للأميركيين في الحالة السورية. فهل التعامل مع الأجنبي، بشكل عام، يعد خيانة للوطن أم هي واقعية يفرضها انسداد أفق الحل السياسي الداخلي؟
في البدء يجب الإقرار بأن الدولة العربية الحديثة التي نشأت بعد انهيار الدولة العثمانية، ساهم المستعمر الأجنبي، بنسبة أو بأخرى، في بروزها وتحديد حدودها وبناء هياكلها ومؤسساتها الأولى. التأثير الكبير للأجنبي على الدولة العربية لم يتأثر بصورة كبيرة بعد الاستقلال، حيث استمرت القدرة على التأثير في القرار الوطني وإن اختلفت الأدوات والوسائل الضاغطة والمؤثرة. فالتدخل الأجنبي ليس طارئاً على الدولة العربية الحديثة بل ظل فاعلاً مؤثراً في صناعتها منذ بداياتها الأولى.
من اللافت أنه في الكثير من البلدان العربية، فإن قدرة الأجنبي على التأثير في القرار الوطني أكبر من قدرة المواطنين أنفسهم، حيث لم تؤسس الدولة العربية الحديثة هياكلها بالشكل الذي يمنح المواطنين القدرة الفعلية على التأثير في القرار الوطني الداخلي أو الخارجي. هذه الإشكالية تطرح أسئلة مفاهيمية كبرى حول المقصود بالأجنبي الذي يبدو أجنبياً في ظاهره فقط، ولكنه على أرض الواقع وفي التأثير على القرارات الوطنية لا يبدو أجنبياً. بعبارةٍ أخرى، إن العلاقة بين الأجنبي والدولة العربية ليست علاقة منفصلة تماماً، وإنما هي علاقة تاريخية تعود إلى بدايات نشوء الدولة العربية الحديثة، كما أن تأثيره الفعلي على القرارات المصيرية تفوق، في الكثير من البلدان العربية، التأثير الفعلي للمواطن العربي.
من جهة أخرى فإن فشل الدولة العربية الحديثة في الاستجابة لتطلعات وحاجات الشعوب العربية وانسداد الأفق السياسي في الكثير من الدول العربية جعلت المواطن العربي يبحث عن مخارج وحلول قد تمثل ضغطاً مؤثراً على الدولة. فشل الدولة العربية الحديثة قد يعود لأسباب خارجية تتمثل في رغبة الأجنبي في استمرار حالة الضعف العربي التي لا تملك القدرة على إعاقة أهدافه ومصالحه في المنطقة العربية؛ كما قد يعود فشل الدولة العربية إلى عدم قدرتها على إقناع المواطن العربي بقدرتها على الاستجابة لمتطلباته. سواء أكانت الأسباب خارجية أم داخلية، أم خليطاً من الاثنين، فإن المواطن العربي في الكثير من البلدان العربية بات في حاجةٍ إلى مسارات جديدة تقوم على أساس معالجات جديدة توفّر له الحياة الكريمة.
ويبدو لافتاً أن المواطن العربي هو الذي يدفع الفاتورة الأكبر لفشل الدولة العربية، وبالتالي فهو الذي يسعى ويجد لإيجاد المخارج والحلول. فالدولة العربية الضعيفة لم تحرم الأجنبي من الاستفادة من ثروات المنطقة العربية، فاستمر تأثيره على القرار الوطني واستمرت مصالحه. كما أن الحكومات العربية، في أغلبها، لم تتأثر مصالحها بضعف الدولة العربية، فاستمرت في الحكم واستمرت في قدرتها على التوفيق بين حاجات ومصالح الأجنبي من جهة، وبين الحاجات والمتطلبات الشعبية من جهة أخرى. أما المواطن العربي فهو الذي بات يدفع ثمن فشل الدولة العربية من حريته وكرامته وحقوقه السياسية والمعيشية، وهو الذي صار مهموماً بالبحث عن حل ينتشله مما هو فيه.
في أغلب الدول العربية يمكن الحديث عن ثلاثة أطراف تساهم بشكل أو بآخر في صناعة القرار الوطني: الأجنبي، الحكومات العربية، المواطن العربي، ولكلّ طرف من هذه الأطراف أدواته. الطرف الأجنبي، الذي قد يكون عربياً أو أجنبياً، بإمكانه أن يساهم في التأثير على القرار الوطني بعدة وسائل. قد يساهم بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر؛ بشكل عسكري أو بشكل دبلوماسي؛ استناداً لمعاهدات واتفاقيات بين الطرفين أو بغير ذلك؛ بالاستفادة من الهيئات المتعددة للأمم المتحدة وبالمؤسسات الحقوقية والدولية أو بغير ذلك.
أما الحكومات العربية فسلطاتها الواسعة تمنحها الكثير من الصلاحيات والأدوات التي تستفيد منها لتؤثر على القرار الوطني وتصنعه على الشكل الذي تريد. ويبقى المواطن العربي يمثل الطرف الأضعف والأقل تأثيراً في صناعة القرار الوطني. أدواته هي ما تسمح له بها الحكومات العربية والتي عادةً لا توفّر سوى مساحة هامشية لا تؤثر على صناعة القرار.
ضعف الأدوات المتاحة أمام المواطن العربي للتعبير عن رأيه وللتأثير في صناعة القرار، قد تفتح عينيه على العلاقة التي تجمع الحكومات العربية، في أغلبها، بالأجنبي الذي يوفّر لها الحماية من الأخطار الخارجية ومن أية هبّات شعبية. هنا تقدّم الحكومات العربية نموذجاً للمواطن العربي، فهي تتعاطى مع الأجنبي وتمنحه الكثير من الامتيازات في مقابل حمايتها واستقرار حكمها. هذا النموذج الحكومي في التعاطي مع الأجنبي يتجاوز مصطلح الخيانة الوطنية ويطرح على أنه «حالة طبيعية» و»واقعية» تفرضها السياسة، وتعاطي الحكومات مع بعضها البعض وفق القوانين الدولية. المثير هنا هو أن القوانين الدولية نفسها تمنح المواطن العربي بعض المساحات التي بإمكانه أن يستفيد منها للتعاطي مع الأجنبي أيضاً. فالقوانين الدولية التي سمحت للحكومات بالتعاطي مع الأجنبي هي نفسها تقدّم المظلة التي بإمكان المواطن العربي أن يستفيد منها. بكلمات أخرى، إذا كان تعاطي الحكومات العربية مع الأجنبي لا يعد خيانةً وطنيةً بسبب القوانين الدولية الضامنة لذلك، فإن تعامل المواطن العربي مع الأجنبي يُفترض ألا يُعَدّ خيانةً وطنيةً للسبب نفسه. فالقوانين الدولية لم تراع الحكومات فقط وإنما راعت المواطنين أيضاً، وهناك الكثير من الهيئات والمؤسسات التي ما أسست إلا للعلم بقدرة الدولة الحديثة على التغوّل والتمدّد على حساب الحقوق الإنسانية والسياسية للشعوب.
على أساس ما تقدّم يمكن القول أن تعاطي المواطن العربي مع الأجنبي استناداً للقوانين الدولية يعد تشبهاً بعلاقات الحكومات العربية بالأجنبي وفق نفس القوانين. كما أن التأثير الواقعي والملموس للأجنبي على القرار الوطني وفشل الدولة العربية الحديثة في توفير المناخ الذي يسمح للمواطن بالتعبير عن رأيه والمساهمة في صناعة القرار الوطني، كل ذلك يدفع باتجاه فتح خطوط تواصل بين الأجنبي والمواطن العربي. وبالتالي فإن أي توسيع لمساحات المشاركة الشعبية في صناعة القرار الوطني لن تساهم في تقوية الحكومات العربية في تعاطيها مع الأجنبي فحسب، وإنّما ستساهم في الحد من حاجة المواطن العربي للتواصل مع الأجنبي.
إقرأ أيضا لـ "حسن سعيد"العدد 4397 - السبت 20 سبتمبر 2014م الموافق 26 ذي القعدة 1435هـ
نعم
صحيح