قبل يومين، غيَّب الموت السيد هاني فحص، وهو أحد الشخصيات الدينية اللبنانية المفكِّرة. وربما شاءت الأقدار أن تنتهي حياة الرجل في نهاية أسبوع من أسابيع السياسة الحافلة في بلاده، والتي تتجرَّع يومياً غصص الأزمة السورية، إنسانياً وسياسياً وأمنياً واجتماعياً واقتصادياً وثقافياً وغيرها من صور الحياة.
هاني فحص لم يكن رجلاً مقبولاً من الجميع، لأنه كان يمتلك رأياً خاصاً في أهم محورين، يصوغان حياة البشر: الدِّين والسياسة. لكن أحداً أيضاً لا يستطيع أن يُنكِر عليه أنه كان من ألمع الألسن العربية والإسلامية، وأكثر الأقلام رشاقة وقدرة على التشخيص وفق رؤيتها المُتبنَّاة.
ولأنه كان يمتلك رأياً خاصاً في الدَّين والسياسة، فقد كان لزاماً عليه أن يتحدث ويناقش أهم ما يرتبط بهما من تجارب على الأرض، وهي التجربة الإيرانية في الحكم ما بعد الثورة الإسلامية، والتي طُبِّق نموذجها بشكل رسمي في الحادي عشر من فبراير سنة 1979.
كان فحص منخرطاً في مشروع الثورة الإيرانية منذ بدايتها. فقد وَلَجَها كونه فتحاوياً كانت تربطه بالقيادات الثورية الإيرانية علاقة تنظيمية، عندما كانوا يتدربون على حمل السلاح في جنوب لبنان، فكان عرَّاباً لعلاقة ستنشأ لاحقاً بين أبي عمار والإمام الخميني.
كما أنه كان شاباً يافعاً عندما اندلعت الثورة في إيران، فانجرَّ لها معتقداً أن ثوريَّته التي كانت متوقدةً آنذاك، بدأت تدخل مرحلة الانسجام ما بين النظرية والتطبيق، فدفعه ذلك لأن يقيم في طهران (1982– 1985) مسئولاً ثقافياً في مكتب أئمة الجمعة والجماعة في رئاسة الجمهورية الإيرانية، ويُكوِّن له علاقات خاصة مع وزارة الثقافة والإرشاد الإسلامي.
ومرةً أخرى ولأنه كان يمتلك رأياً خاصاً في الدّين والسياسة، بدأ هاني فحص يتموضع بين الخلافات السياسية في الداخل الإيراني، ما بين يسار ديني (روحانيون مبارز) وبين يمين محافظ (روحانيت مبارز) وما نتَجَ عنهما من أحزاب وتيارات صغيرة متعاركة.
لكنه وفي الوقت نفسه، كان حريصاً على عدم قطع الخيط مع الجميع. كان يُدرك أنه عربي لبناني قبل أن يكون مسلماً «شيعياً» بنظر الآخرين وبالتالي عليه أن يلزم حدود «الغريب» بين الأهل. لذا، تسلَّل هاني فحص ليستقر على ما انتهى إليه مجمَّع علماء الدين المناضلين (روحانيون) من مواقف من الدولة، والتي أفرزت في ختامها تجربة التيار الإصلاحي في إيران بين عامي 1997– 2005.
أتذكر أنني التقيتُ بالسيد هاني فحص في 15 فبراير 2004 خلال زيارته للبحرين وأجريتُ معه لقاءً صحافياً نشرته في «الوسط». كانت محاور اللقاء تتركز على التجربة السياسية في إيران. ورغم أن التجربة كان قد مضى عليها آنذاك 25 عاماً إلاَّ أن فحص أصرَّ على أن يصرح أنه «ليس عيباً أن نقول إن التجربة الإيرانية حتى الآن هي التجربة التجريبية».
كان هاني فحص يشير بوضوح أنه اكتشف بأنه لم يكن هناك لدى قيادة الثورة الإيرانية «نموذج محدد» للحكم «بل كانت هناك أفكار عامة». كان ذلك برأي فحص شيئاً إيجابياً لأنه «ضد تنميط الدولة التي هي مؤسسة اجتماعية منشأها التاريخي والنظري كونها ضرورة اجتماع»، وهو ما يعني «أنها لابد أن تتطابق مع جميع الخصوصيات ومع العموميات أيضاً، بمعنى أن تتأثر بزمانها ومكانها وتكوين المجتمع الذي تريد أن تحكمه».
كان فحص من أشد الدافعين نحو عدم تغليب «دينية» الدولة على «جمهوريتها»، وبالتالي الدفع بعدم تعطيل آليات ترسيخ «الجمهورية» والذي كان البعض يطالب بإلغائها في إيران. كان يُردّد تصريحاً للخميني أثناء الحرب مع العراق يقول فيه: «إذا تعطلت الانتخابات انتهت الثورة، لذلك يجب أن نُجري الانتخابات ولو بين القذيفة والقذيفة».
لكنه أيضاً (أي فحص) كان يعترف بأصالة المحافظين ومنهجهم في إيران. كان يتساءل: «كم انتخابات حصلت أثناء الصراع بين المحافظين والإصلاحيين» رئاسية أو نيابية؟، و»كان بإمكان المحافظين وهم حُكّام وممسكون بالمؤسسات السيادية كالحرس الثوري وقوى الأمن والجيش والقضاء، أن يلغوا الانتخابات ويبطلوها أو يعملوا أي شيء لكنهم لم يفعلوا».
ربما كان فحص يرى أن ذلك الرسوخ مردّه إلى «مظاهر حيوية المجتمع الإيراني». كان يعتقد بأن المجتمع الإيراني «لا ينتظر الدولة حتى تفكر له بل هو يفكر أولاً ويُجبر الدولة على اللحاق به، وبالتالي فإن جدل الدولة والمجتمع جدل مستمر وغير معطّل» في إيران.
وفي الوقت الذي كان فحص يدافع فيه عن التجربة الإيرانية كان أيضاً يرى أنها تجربة نسبية. كان يرى بأن إيران كيَّفت نفسها «إسلامياً. بمعنى أن يكون الإسلام ثقافتها ذاكرتها ومكوّن رؤيتها»، لكن التجربة جعلتها تُميِّز «بين الدين والسياسة، واكتشاف المشترك الغائي والقيمي والتمييز الوظيفي بين الدين والسياسة لا الفصل».
وعندما كان يتحدث عن المرأة الإيرانية كان له رأي وهو أوضاع النساء تصبح متقدمة «في المجتمعات ذات الثقافة المركبة، كباكستان وبنغلادش وماليزيا وأندونيسيا وهي أماكن التعدد الفعلي وحازت المرأة موقعاً غير عادي» فيها. وإيران ليست استثناءً من ذلك، مضافاً إليه أنها «تلعب على المساحة المشتركة فيما يخصها» بين الدين والواقع.
بالتأكيد، فإن أفكار ومواقف عديدة للراحل لم أكن (وآخرين أيضاً) لنتفق معه فيها، لكننا أيضاً لا يمكن أن ننكر أنه كان صاحب رأي منطوق يتمتع بالبيان، وقلم يخط أفكاراً خلاقة قابلة للنقاش والرد، رحمة الله على السيد الراحل، وألهم أهله الصبر والسلوان.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4396 - الجمعة 19 سبتمبر 2014م الموافق 25 ذي القعدة 1435هـ
لصاحب المداخلة رقم 1
لا أعرف أين العداء الذي الذي تقصده! فالمقال ليس فيه هجوم على ايران ولا على غير إيران بل هو عكس ما تراه ولكن المشكلة هي في فهمك وحكمك السريع
مقال جميل
شكراً أخي محمد.. الرجل كان ظاهرة فكرية وسياسية تستحق الالتفات والدرس
سلط قلمك على البحرين
اكتب بموضوعية عن الراحلين الكبيرين ووجهة نظرهما بكل موضوعية وحيادية العالمان الكبيران الشيخ عبدالأمير الجمري والشيخ سليمان المدني رحمهما الله لقد تسبب في المجتمع البحريني شرخا كبيرا بسسب مواقفهم فحبذا لو كتبت عن مواقفهم اعلم الموضوع فيه حساسية ولكن لابد من التركيز على هذه الحقبة التي غيرت الكثير الكثير ...
متابع
لكن كتابات القريبين من الراحل انتقادية جداً تجاه إيران والجميع يعرفهم
متابع
هذا المعلق ليس هو الأخ ( متابع ) المعروف ، الذي كان يطرح مواضيع كثيرة من أجل الكتابة عنها ، فلا يحصل الاشتباه
أفكأن الله لم يخلق غير ايران في نظرك أيها الكاتب.
كتاباتك وأن كان فيها الكثير من الصحة والواقعية ولكنها لاتخدم مجتمعنا ، الخلافات الايرانية بين العلماء كثيرة ولا نهاية لها . فمثلا في البحرين هناك تيارات علماء تختلف وجهة نظرها عن بعض .. فهل نعيب أحد لا.المرحوم له وجهة نظر وغيره له وجهة نظر والواقع يقول أن ايران أصبحت دولة مرموقه جدا... أيها الكاتب إن الكتابة في بحر ايران سيضيعك ولا تبحث عن مساؤها لأن مساؤها لا يفيدنا .. أكتب عن السيد العملاق المغيب موسى الصدر أو السيد المقاو م الذي شغل الساحة الاسلامية والعربية والاجنبية ..هم سيعرفوك من ايلاان.