حذرت تقارير المنتدى العربي للبيئة والتنمية تكراراً من أن طلب البلدان العربية على الموارد يبلغ ضعفي ما يمكن الأنظمة الطبيعية في المنطقة أن توفره. في طليعة التحديات الأمن الغذائي والمياه والطاقة، إذ تستورد الدول العربية حالياً أكثر من نصف حاجتها إلى المواد الغذائية الأساسية، وحصة الفرد العربي من المياه العذبة أقل بعشرة أضعاف من المعدل العالمي. هذا الخلل بين الإمدادات المحلية والطلب على الموارد يشكل تهديداً لفرص النمو ونوعية الحياة في المستقبل.
غير أن الصورة التي رسمتها التقارير في السنوات السابقة لم تكن قاتمة كلياً. فعلى رغم الأوضاع الحرجة، تبين أنه يمكن مواجهة هذه التحديات عن طريق الإدارة الرشيدة للموارد والتعاون الاقتصادي بين البلدان العربية على المستوى الإقليمي. ولما كانت مستويات إنتاج الغذاء في معظم البلدان العربية منخفضة جداً مقارنة بالمعدل العالمي، واستخدام المياه لأغراض الري يتميز بنقص كبير في الكفاءة، فإن تحسين إنتاج الغذاء ورفع كفاءة استخدام المياه يؤديان الى نتائج سريعة. لهذا فإن تحقيق نوعية حياة جيدة يمكن الحفاظ عليها على المدى الطويل لجميع سكان المنطقة يتطلب الاهتمام بتحقيق مستويات عالية من التكامل الاقتصادي وفتح التجارة الحرة عبر حدود دول المنطقة العربية، بحيث يساعد التدفق الحر للمنتجات والرساميل والثروة البشرية على تحسين أوضاع جميع البلدان.
كما حذرت التقارير من انعكاسات الإدارة غير الملائمة للموارد على البيئة. فالإفراط في استغلال الموارد، وأثر التغير المناخي، والزيادة السكانية المرتفعة، والنمو الاقتصادي والعمراني غير المنضبط، كلها تضاعف من التحديات البيئية التي تواجه المنطقة وتحدّ من القدرة على إدارتها. وفي طليعة هذه التحديات ندرة المياه، وتدهور الأراضي، والإدارة غير السليمة للنفايات، وتدهور البيئة البحرية والساحلية، وتلوث الهواء والماء. وقدرت التقارير كلفة التدهور البيئي في المنطقة العربية بنحو 5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي، في حين أن ما تخصصه الموازنات الوطنية للإدارة البيئية لا يتجاوز الواحد في المئة في أي بلد.
حين حذرنا من أن البلدان العربية تواجه أزمة بقاء بسبب سوء إدارتها للموارد المحدودة وضعف التعاون الإقليمي في ما بينها، كنّا نؤكد دائماً أن الحلول في متناول اليد، وهي تتطلب قرارات سياسية شجاعة وسريعة.
ماذا نقول اليوم عن إدارة الموارد والتعاون الإقليمي؟ معظم البلدان العربية تعاني نزاعات داخلية قضت في السنوات الثلاث الأخيرة على نصف مليون شخص وهجّرت أكثر من 20 مليوناً ودمرت مساحات شاسعة من الأراضي المنتجة تتجاوز عشر مرات مساحة لبنان. حين كنا ننشر قبل سنوات خرائط تبين الموارد الطبيعية والمشاكل البيئية في البلدان العربية، كان الإشكال الوحيد الذي يتسبب باعتراض رسمي هو الحدود المتنازع عليها بين المغرب والصحراء الغربية. خلال الفترة الأخيرة، بدأت الدويلات تنمو كالفطر في جميع أرجاء المنطقة، فصار من المستحيل إنتاج خريطة من دون الدخول في خلافات مع أكثر من عشرين جهة أعلنت دويلاتها وحدودها.
بدل التوجه نحو الإدارة الرشيدة للموارد والتعاون الإقليمي، دخلت المنطقة في حروب عبثية تدمر الموارد وتقتل البشر وتزيد من التشرذم.
الأحزاب العربية التي رفعت لنصف قرن شعارات مثل «أمّة عربية واحدة ذات رسالة خالدة»، أكلتها التوتاليتارية والزعامات الشخصية «الخالدة»، فلم تتمكن من تحقيق أي نموذج في التعاون الإقليمي، على غرار الاتحاد الأوروبي مثلاً، بدلاً من الأوهام. المفارقة أن مجموعات عنصرية تحاول اليوم فرض عقائدها ومعتقداتها المنغلقة تحت عناوين التحرير والتوحيد. والضحية دائماً الإنسان والبيئة.
التعاون الاقتصادي الإقليمي بين دول مدنية تحترم كرامة الإنسان هو الخيار الوحيد، ليس فقط لوقف النزاعات السياسية والعسكرية، بل لضمان الإدارة المتوازنة للموارد وحماية البيئة. غير أن الاستمرار في التقاتل لبناء دول في السماء سيفقد أهل المنطقة كل إمكانية للحياة على أرضهم.
الأمن الغذائي سيكون موضوع التقرير السنوي الجديد للمنتدى العربي للبيئة والتنمية، الذي يصدر في تشرين الثاني (نوفمبر). فلننتظر كي نرى عدد الدويلات الجديدة التي ستظهر حتى ذلك الوقت، وحجم الموارد الطبيعية الإضافية التي ستكون دمّرتها الحروب والنزاعات، ومئات الآلاف الذين سينضمون إلى قافلة الضحايا. فهل ستكون الأرقام والتقديرات والتوقعات والخرائط التي نضعها اليوم صالحة في الغد؟
في صراعنا على الدويلات والإمارات والولايات في السماء، سنخسر مملكة الأرض.
إقرأ أيضا لـ "نجيب صعب"العدد 4395 - الخميس 18 سبتمبر 2014م الموافق 24 ذي القعدة 1435هـ
ظهر الفساد في البرّ والبحري بما كسبت ايدي الناس
البشر هم من يدمّر الارض وما عليها وليس السماء وكل ما يحصل هو بسبب ما اقترفه الانسان