ضمن مشروعه لتوثيق الجهد الصحافي للرعيل الأول من المؤسسين، يخصص الكاتب والباحث خالد البسّام، كتابه «علي سيَّار... عمْرٌ من الكتابة» ضمن هذا الاتجاه. الكتاب في مُجمله يُصنّف ضمن الإعداد لأن لمسات البسّام فيه لم تتعدَّ المقدمة، واختيار المقالات التي نشرها سيَّار في عدد من الصحف وقتها، وفي فترات متباعدة يبدأ أولها يوم الأحد 23 أكتوبر 1949م، في صحيفة «صوت البحرين»، وينتهي آخرها في 11 سبتمبر 2005.
لم يخْلُ الزمن الذي مارس فيه سيّار مهنة الكتابة من معارك سياسية وإصلاحية وثقافية واجتماعية. كانت الصحافة مرآة تعكس ذلك الحراك.
في العام 1944 خلت البحرين من الصحف بعد توقف صحيفة “البحرين”، قبل وفاة صاحبها ومؤسسها عبدالله الزايد، بحسب المقدمة التي كتبها البسّام. كان الطموح من دون حدود، لتأتي فرصة تأسيس صحيفة “القافلة» بالشراكة مع أحمد محمد يتيم، محمود المردي، يوسف الشيراوي، وناصر بوحميد، وكانت تصدر كل أسبوعين؛ حيث شغل سيار منصب سكرتير التحرير، فيما تولى أحمد يتيم منصب المدير المسئول.
وبحسب البسام، خاضت الصحيفة معارك لا هوادة فيها ضد المحافظين، وتصدّت للمطالبة بحقوق المرأة “ودافعت عن تأسيس نادي السيدات الذي لاقى حرباً شعواء”.
ويشير البسّام في مقدمته للكتاب إلى أن الصحيفة وأصحابها، وعلى رأسهم علي سيار، تكبدوا “معاناة كبيرة بسبب تلك المواقف الشجاعة والواضحة، فعلاوة على الخسائر المادية، كانت هناك المقاطعة والرقابة الشديدة التي كانت تضطر الجريدة إلى أن تخرج إلى قارئها أحياناً مملوءة بالبياض بسبب حذف الرقابة لمعظم المقالات والأخبار”.
وربما كانت أشرس المعارك التي خاضتها الصحيفة هو تبنّيها لمطالب الحركة الوطنية والإصلاحية وتوجهات الاستقلال التي قادتها هيئة الاتحاد الوطني. خضعت الصحيفة للرقابة المشدّدة من قبل سلطة الانتداب البريطاني، علاوة على المقاطعة.
كي لا يأخذنا السرد. لإغلاق الصحيفة الذي استمر شهراً كاملاً، بسبب نشر خبر مصدره مجلة “التحرير” قصةٌ نشَرها سيّار بعد أن استأنفت الصدور في مقال تحت عنوان “من هو الفوضوي”، نشره في العدد 37 من الصحيفة بتاريخ 23 يوليو/ تموز 1954م. بدأ المقال بنفي تبرير موقفه، مشيراً إلى الأسماء التي تم وضعها على القائمة السوداء، والاتهامات التي تكال إليها.
“في صباح يوم السبت المباشر لصدور آخر عدد من أعداد (القافلة) رقم (36)، استلمت إشارة تليفونية من المستشارية تقول بأنني مطلوب لمقابلة المستشار. ولم يكن الطلب بالجديد عليّ، فقد تعوّدت كل صباح حين أجلس إلى المكتب أن أتوقع حدوث هذا الطلب، طالما أن هناك شيئاً اسمه (القافلة)، وطالما هناك أقلام تكتب... وقلوب تغلي... وأفكار تتصارع.
ولم يكن عندي متسع - ساعتها - من الوقت لأعيد قراءة العدد الأخير ولأستشف السر من وراء هذه المقابلة، ولكنني تصفحّت العدد على عجل وألقيت نظرة عليه هنا وهناك... وتيقّن لديّ أن الأمر لا يعدو التباساً أو أي شيء، إلا أن أطلب للتحقيق معي فيما يعني شئون الجريدة والنشر... ولكن سرعان ما تبخّر هذا الظن حين دخلت على المستشار فإذا به يواجهني بالعدد وقد وضع خطاً أسود تحت بعض أسطر منه بالقلم الرصاص، وناولني العدد وهو يشير إلى خبر صغير منشور في صفحة (القافلة تسير)، وقرأت الخبر وكان يقول بالحرف الواحد: يستعد العسكريون الأمريكان والإنجليز استعداداً كبيراً لجعل البحرين منطقة عسكرية في الخليج وسوف تنزل فيها قوات عسكرية ضخمة، وقد بدأت الاستعدادات لاستقبال أول فوج...”.
ونظر إليَّ المستشار والصحيفة في يدي ثم دارت بيني وبينه المحاورة التالية:
- من أين جئت بهذا الخبر؟
- نقلته من مجلة التحرير...
- ولماذا لم تُشِر إلى أنك نقلته من مجلة التحرير؟
- لأن العادة لم تجْرِ بأن يُشار إلى مصادر الأخبار.
- ولكن خبراً هاماً كهذا يجب أن يُعرفَ مصدره.
- وما هو وجه أهمية هذا الخبر حتى يشار إلى مصدره؟
- وجه أهميته أنه غير صحيح تماماً... وأؤكد لك ذلك.
- إذاً نستطيع أن نقول في العدد القادم بأن الخبر غير صحيح.
- ولكن ألا تعلم أن نشر مثل هذا الخبر يبلبل الرأي العام؟
- لا أعتقد ذلك.
- ولماذا؟
- لأن نزول القوات الأمريكية والإنجليزية حدث حقيقة في الحرب العالمية الأخيرة، فلم يُثر أي استياء لدى الرأي العام... حتى ولم يتحسس منه الرأي العام.
- لقد حدث هذا في الماضي... أما في المستقبل فلن يحدث... ثم ما الذي جعلك تنشر الخبر دون التأكد من صحته؟
- وطالما أن هذا حدث في الماضي... فما الذي يمنع من حدوثه في المستقبل؟
وهكذا أخذ الحديث يتشعّب بيني وبينه... وطال الجدل وطال النقاش... وتطرق الكلام إلى مواضيع حساسة جداً، وفي كل مرة يصل الحديث إلى نقطة معقدة... يبتسم سعادته في وجهي... ومعنى هذا أن ينتقل الحديث إلى موضوع آخر.
وانتهت المقابلة بعد أن دامت حوالي نصف ساعة... وخرجت وكلماته الأخيرة تتردد في مسمعي:
- يجب أن توقف إصدار الجريدة شهراً واحداً.
وهكذا كان...”.
علي سيار “كان يكتب في كثير من الأحيان الكثير من أبواب المجلة ومعظم صفحاتها، ويشتغل أيضاً في إخراجها ومتابعة طباعتها”.
خبر سفر مستر كوكس
معظم الصدامات والتحولات التي تعرض لها سيار في مسيرته الصحافية كانت بفعل مواقفه وجرأته، وإقدامه على التطرق لموضوعات غاية في الحساسية، والاقتراب من خطوط وقتها كانت حمراء وبشكل مشدّد. وعلى رغم معرفته في كثير من الأحيان بالنتائج التي ستتمخض عن تلك المواقف والجرأة إلا أنه يُقدِم عليها من دون تردّد.
كان للقراء نصيب من إطلاق النعوت المسيئة ضده، وكان مستهدفاً ضمن مجاميع لا قواسم مشتركة بينها في كثير من الأحيان.
يروي في مقاله “الوطن والرقابة” الذي نشره في صحيفة “الوطن” في عددها الثالث والعشرين بتاريخ 18 مايو/ أيار 1956، وتحت عنوان فرعي حمل اسم “الذين يعملون في الظلام”، قصة تلك النوعية من القرّاء: “استلمت هذا الأسبوع رسالة من أحد القرّاء اتهم فيها الجريدة بأنها ذات ميول إنجليزية، وبأنها ما نشرت خبر سفر المستر كوكس، السكرتير الثالث لرئاسة الخليج، إلا لأنها على اتصال وثيق بالجهات الإنجليزية... وبأن نشر مثل هذا الخبر لا يعني إلا أن الجريدة تدافع عن وجهة نظر الإنجليز الذين يمثلهم المستر كوكس، أحد أعمدة الاستعمار في الخليج... هكذا كانت تقول الرسالة. وأنا لا أريد أن أدافع عن المستر كوكس، سواء أكان استعمارياً أم كان ذا عقلية متحررة واعية، ولكن أريد أن أقول لهذا المدّعي بأن نشر أي نوع من الأخبار لا يعني شيئاً مهما كانت الجهة التي يتعلق بها الخبر، وإلا لكان نشرنا لأنباء (إسرائيل) وتحركات بن غوريون وتصريحات جي موليه جريمة لا تُغتفر... لأننا نعتبر كل هؤلاء أعداء لنا... ولأننا نضعهم على رأس القائمة السوداء”. ويختتم سيّار رده على القارئ المعنيّ بالقول: “إنني كنت أريد أن أقول أشياء كثيرة عن الذين يعملون في الظلام وعن تلك الفئة الآثمة التي تحاول أن تندسّ بيننا لابسة مسوح البراءة والسذاجة، وهي من أعماقها ليست أكثر من طفيليات تحاول أن توقف الركب السائر في طريق النور والحرية، ولكنني أمسك عن ذلك - في هذه اللحظة بالذات - وقد لا يبعد اليوم الذي أكشف فيه جميع الأوراق، وألقي في وجوه أولئك القفاز”.
في زمننا هذا لم تعد تلك النوعية من القراء فقط هي التي تقوم بالتخوين وكيل التهم بالعمالة. يتصدّى لتلك القضايا والمهمات اليوم المحسوبون على الكتابة والصحافة، من دون أن يطرف لهم جفن، أو يهتز لهم ضمير؛ لأن الضمير في غياب طويل!
المتاعب التي يواجهها الصحافيون اليوم، على رغم التغيرات التي طرأت على العالم، والتحولات التي لا تنفك في حركة دائمة، هي تحت مسمع وبصر العالم، وقد يكون لبعض المعطيات التكنولوجية والطفرة في وسائل التواصل دور - نوعاً ما - في الحد من الاستهداف المكثف والمنْع، إلا أنها تكاد تتطابق في كثير مما عاناه الصحافيون في تلك الفترة المتقدمة من تاريخ البلاد، ونشأة الصحافة. إنها مهنة الذين دخلوا في حلْف مع المتاعب، إذا كانت ستفضي إلى تغيير ولو كان محدوداً!
العدد 4393 - الثلثاء 16 سبتمبر 2014م الموافق 22 ذي القعدة 1435هـ
طيب الان هناك الاسطول الامريكي الخامس مقيم في البحرين
وهناك القواعد العسكرية الامريكية منتشرة في الخليج والوطن العربي
وهكذا ثبت ان الصحفي هو الصادق والمسؤول .. شنقول .