قبل 79 عاماً صُدِمَت البشرية بأفعال بعض منتسبيها. ففي الخامس عشر من سبتمبر/ أيلول 1935 (والذي يصادف ذكراه اليوم) أعلنت ألمانيا «النازية» أنها أصدرت قوانين تنظيمية كانت غايةً في العنصرية، سُمِّيَت بـ «قوانين نورمبيرغ»، كونها صدرت في مدينة نورمبيرغ شمال غرب ميونيخ الألمانية.
القوانين استهدفت الأعراق غير الآرية، وبالتحديد اليهود والغجر والسود، وأيضاً المرضى. فقد حُظِرَ على أي يهودي في ألمانيا ينحدر من ثلاثة أو أربعة آباء يهود من حقوق المواطنة، ومن الزواج أو إقامة علاقة جنسية مع ألمان آريين أو ممن هم يتصلون بدمائهم نَسَباً.
كما اشترطت تلك القوانين على كل مُقبِل على الزواج أن ينال شهادة طبية، تشهد له أنه خالٍ من أي مرض وراثي أو مُعدٍ حتى ولو بشكل محتمل، ومنع أي زِيْجَة قد تُنتِج عرقاً مشكوكاً فيه يأتي من غَجَريٍّ أو أسوَد، وذلك تحت شعار «حماية الصحة الوراثية للشعب الألماني» باعتباره الشعب الأنقى والأعلى مكانةً من كافة الشعوب الأخرى.
بالتأكيد، رافق ذلك أعمال أخرى كإجبار اليهود على بيع ممتلكاتهم بثمن بخس، وتسريحهم من المراكز التنفيذية، ومَنعهم من الترافع أمام درجات التقاضي الألمانية أو تقديم خدمات علاجية ليهود، كما مُهِرَت بطاقاتهم التعريفية بما يشير إلى يهوديتهم.
كما اضطُهِدَ عشرات الآلاف من الغجر والسود والمثليين جنسياً والمعاقين ذهنياً عبر إخصائهم أو إجراء التجارب الدوائية عليهم كالفئران للتأكد من جدواها. بل إن هتلر اعتَبَر السود بأنهم «تدنيس للعرق الآري»، فطرد أبناءهم من المدارس وأرسلهم إلى السجون.
كان الظلم قد وصل إلى مدىً بعيد على يد النازيين. ولنا أن نتخيل ملايين البشر، وهم يساقون مرةً إلى السجون ومرةً إلى الإعدامات، ومرةً إلى الإخصاء، ومرةً إلى حرمانهم من الطبابة، بل ووصل الأمر حتى إلى سلخ وجوه السود بالمياه الحارة لاستبدال بَشَرَتهم.
لكنه وبطبيعة الحال، يبقى كل ذلك مجرد صورة «فقط» من صور التاريخ المخزي للعديد من الأنظمة السياسية الظالمة. وقد تكون تلك الصورة من أقسى الصور لكنها ليست الوحيدة بالتأكيد. فالعنصرية والتمييز، لم يقم به النازيون فقط، بل عديد من الأنظمة.
الحقوق مسطرة كاملة، ربما يكون نظام قد انتهكها حتى آخر سنتيمتر فيها، وقد يكون وصل إلى نصفها، لا فرق من حيث الجوهر، خصوصاً أن كثيراً من الأنظمة لم تقم بإعلان قمعها لفئات اجتماعية على أساس عرقي أو ديني أو سياسي كما فعل النازيون عبر الإشهار به والدعاية له، لكنها ظلمت حتى الموت سراً ومن وراء جُدُر.
مشكلة بعض الأنظمة أنها تعتبر القانون حائلاً بينها وبين تحقيق رغبتها في إرغام الآخر، الذي قد لا يتفق معها في السياسات والمواقف، وبالتالي فهي لا تعتبر القانون وسيلةً أساسيةً في المحافظة على أركان المواطنة، وإشاعة الأمن الاجتماعي والشخصي، وتحقيق السكينة الأهلية التي تخلق استدامة في سلامة المجتمعات بل وسيلة تطويع لا أكثر.
كان جان جاك روسو قد بَحَثَ هذا الأمر بشكل عميق في كتابه «العقد الاجتماعي». كان يرى بأن القانون يجب أن «يعتبر الرعايا من حيث هم أجسام وينظر إلى الأفعال على أنها مجردة، ولا ينظر قط إلى إنسان ما باعتباره فرداً ولا إلى فعل من الأفعال على أنه جزئي».
هذا يعني أن المجتمع ليس فيه أبناء ذوات وأبناء كَسَبَة، ولا دماء زرقاء وأخرى حمراء، بل إن القانون يسري على الفعل أياً كان مصدره، وإلاَّ لم يُصبِح قانوناً ناصراً بل مساهماً في تكريس الظلم، فالقانون حسب روسو هو جامع بين «كليَّة الإرادة وكليَّة الموضوع».
إن من أهم وظائف القانون هو كونه إطاراً لعمل الدولة، والمانح لها شرعيتها المُختَبَرَة دائماً، والمكرِّس لهيبتها، والكابح لجموح الناس تجاه بعضهم، والحامي لعملهم ومعاملاتهم المتبادلة. وإذا ما تخيلنا غياب كل تلك الأشياء فإن الدولة تصبح ماخوراً للجريمة.
أيضاً، هناك أمرٌ في غاية الأهمية يجب أن نعلمه، وهو أن الحاجة البشرية هي لجوهر القانون لا إلى مظهر القانون. فوجود دستور لا يعني أن البلد يسير على القانون، لأن الدستور كوثيقة مكتوبة حافظة للحقوق والحريات، غير كافٍ إذا لم يُوجَد ما يجعله نافذاً.
أغلب الدول القمعية لديها أفضل الدساتير، لكن الفرد فيها لا يتمتع بأبسط حقوق المواطنة المتساوية. وأغلب الدول الديكتاتورية لديها قوانين، لكن تلك القوانين عاجزةٌ عن لجم الفساد والحد من انتهاك حقوق كثير من المواطنين لأسباب سياسية أو طائفية أو عرقية وغيرها.
لو أن جنوب إفريقيا لم تستطع أن تنتصر للطفليْن الأسوَديْن في منتجع «بروستورم فاكنايس أورد» فماذا كان سينفع وجود دستور مكوَّن من مئات الأوراق؟ ولو أنها لم تأتِ بحق ستيف بيكو «الأسود» من قاتله «الأبيض» جيدون نيوودت، فماذا كان سينفع القول بانهيار نظام الحكم العنصري وانتصار مانديلا عليه؟ هذا ما نقصده بنفاذ الدستور.
أختم الحديث بقول مشهور للقس والناشط السياسي الأفرو - أميركي مارتن لوثركنج وقد أصاب فيه عين الحقيقة. مارتن قال: «قد يكون صحيحاً أن القانون لا يُمكن أن يجعل شخصاً يحبني، لكن بإمكانه منعه من إعدامي زوراً، وهذا في اعتقادي في غاية الأهمية».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4391 - الأحد 14 سبتمبر 2014م الموافق 20 ذي القعدة 1435هـ
شكرا استاذي
مبدع كالعادة
سؤال واااااااضح
كيف يكون هناك دستور في بلد به آلاف المعتقلين
المتمردة نعم
مقال نافذ .لا اعلم لم الارتباط الوثيق بين هتلر والجبروتية في التاريخ رغم انه يوجد الكثير غيره من الطغاة .الحسنة الوحيدة التي تشفع لهتلر انه كان صادق مع نفسه وغير منافق يعترف بعنصريته وجرائمه
دام قلمك ..
مبدع كالعادة ..
شكرا
مقال رائع
يعطيك العافية
الموضوع في الصميم مثل ما يقول المثل إلي على راسه ريشه يتحسسها
بارك الله فيك
مقال في غاية الروعة استاذ محمد . مبدع دائما كما عهدناك