لا يستطيع البعض رؤية التشابه في المتباينات. هذه حقيقة القدرات البشرية. إلاَّ أن الأكيد أن كثيرين استطاعوا تحقيق ذلك. وكلما تقدم الزمن وزادت نسبة التعليم وانحسرت الأمية وتعاظمت وسائل الاتصال، يبدأ الناس في رؤية الأشياء بشكل أوضح.
أمام هذه القاعدة يأتي الحديث عن أمر مهم في حياة الشعوب وعلاقتها بالسياسة والأنظمة الحاكمة، والموقف من التغيير والامتيازات ومكافحة الفساد والتوزيع العادل للثروة، ومناهضة الدولة العميقة، لصالح أرضية منبسطة وشفافة من العمل التنفيذي والتشريعي والقضائي، الذي يجعل من حياة الشعوب أكثر قرباً من العدالة.
فقد دَرَجَت الأنظمة السياسية المتخلفة منذ الأزل على التحوُّط بجماعات شعبية، وأحزاب تكسب ولاءها، مقابل تبادل منافع مشتركة وإن بَدَت مختلَّة الميزان، على أن تقوم تلك الجماعات والأحزاب بأدوار وظيفية أبرزها الدفاع المحافظ عن الوضع القائم ومناهضة التغيير، وبالتالي تحولها إلى قوى شد عكسي اجتماعية تمارس دور الثورة المضادة.
هذا الأمر جرى في العديد من البلدان التي مرت بثورات اجتماعية سواء في آسيا أو أوروبا، بل وحتى في الأميركيتين. وعند معاينة كل بلد على حِدَة يظهر لنا كيف أن عوامل تطور المجتمع والحياة، سواء الانتقال من الأوضاع الريفية إلى الحضرية وتطور أشكال الاتصال، كانت تلعب دوراً في ضرب هذه السياسة التي كانت تقوم بها تلك الأنظمة لإماتة التغيير.
لقد سيطر 400 ألف من النبلاء على خير فرنسا، فأُعفوا من الضرائب، ومُلِّكُوا الأراضي الشاسعة وسُيِّدوا على المناصب السياسية والاقتصادية والعسكرية المرموقة، في حين ظل ثلاثة وعشرون مليون فرنسي فقراء. واستطاع أولئك النبلاء مع الملكية أن يعيشوا على أكتاف وحناجر الفقراء لِلَجمِ كل صوت يطالب بالتغيير، وتخويفهم مما هو قادم.
لكن ذلك الحال لم يستمر طويلاً، عندما بدأت الأرياف تشهد هجرات نحو المدن، ومع تطور الحياة اليومية للناس وزيادة انتشار الصحف والتعليم، لم تعد تلك السياسة تنفع مع الفقراء ولا العبيد في إقناعهم بأن مقتلهم هو في تغيير الأوضاع القائمة، بل أصبحت تلك المجاميع جزءًا أساسياً في التمرد على الأسياد والانضمام للثورة الشاملة.
في جانب آخر من المعادلة، فإن الأنظمة التي تتوخى احتياطات استثنائية في سبيل المحافظة على القيم التقليدية للسلطة، وتدفع بهذه المجاميع إلى معترك الصراع الاجتماعي ضد قوى التغيير، فإنها تتفاجأ عادةً بما يمكن أن يُسمَّى بـ «التعرية الطبيعية للتطور الزمني»، التي تخلق أوضاعاً جديدة وبشكل قسري خارج إرادة الجميع.
فالحركة الاجتماعية هي عبارة عن أفكار متعاكسة، وثقافات نديّة، ومصالح متفقة ومختلفة، وميول بمقاسات متباينة، وتدافع بشري يُزيح ويجلب أثقالاً متعددة لمركز الحركة ولحوافها. لكن هذه الحركة تبقى الساحة الأبرز للتأثير المتبادل بين كل أولئك، وبالتالي تخلق أفكاراً وثقافات ومصالح وميولاً هجينة وذات أنوية مشتركة، وكأنها حالة جديدة.
وأمام هذا الأمر يصبح الجميع عُرضةً للتأثر مهما كان موضعه، بما فيها تلك الجماعات المتحالفة تاريخياً أو آنياً مع النظم الحاكمة تحت عنوان الامتياز الطبقي، وبالتالي يجري عليها ما يجري على غيرها من تأسيس لمواقف أكثر تحرراً وبداية صحوة نحو تحديد هويتها ورؤيتها للأمور بعيداً عن التأثير الموجَّة.
وعندما يحدث ذلك يبدأ جدار الخوف في الاهتراء لتَعبر القناعات الجديدة على ركامه، وهي ترى ومن خلال التطور التكنولوجي كل المثالب القائمة، ومن دون مساحيق ولا رتوش، بحيث لا تستطيع التبريرات واللغة الخشبية في التعمية عليه أو تقديمه بأفضل مما هو عليه.
هذا الأمر قد يأخذ وقتاً طويلاً لكنه يسير بإحكام ومن دون توقف. فهو يعيد تركيب المجتمع بطريقة أكثر قرباً من بعضه فيما خصّ المشتركات العامة، التي تحفظ له ذاته من الذوبان أو التدمير، وبالتالي تحوُّل الدفاع الذاتي إلى دفاع اجتماعي متعاضد مع الأغيار.
مليارا هاتف ذكي في العالم (من المؤمل أن يصل الرقم إلى 5.6 مليار العام 2019)، و3212 قناة تلفزيونية، وعشرات الآلاف من الصحف، ووسائل الاتصال الاجتماعي لم تعد تجعل الأنظمة قادرةً على صد هذه الموجة العارمة من التعريفات المتلاحقة للحقوق والحريات والموارد، وبالتالي بناء جُدُر اجتماعية تقوم بواجب الدفاع عن سارقيها وناهِبِي حقوقها.
للأسف، فإن طوق النجاة الوحيد، الذي بات بيد الأنظمة المستبدة هي لجوؤها إلى المنحى الطائفي كخيار تدميري لذلك التركيب الناشئ، عبر تكريس ثقافة الغيتو المذهبي، الذي يستحيل فيه القبول بالآخر، في ظل حرب إقليمية وعالمية دينية مستعرة على أساس مذهبي، وما أدى ذلك إلى انسياق كثيرين وراءه تحت راية الحَمِيَّة الدينية والجهل المركَّب.
وربما هي صفحة من صفحات الصراع التاريخي، الذي مرَّت به البشرية منذ حريق روما النيروني، مروراً بمجازر واسّي الشامبانية في أوروبا وحتى صراعات شبه القارة الهندية، إلاَّ أنها تبقى مجرد صفحةٍ ستُطوَى حتماً، رغم أن كلفتها التي تدفعها المجتمعات العربية والإسلامية عالية ولا داعي لها من الأساس.
هنا، على الجميع أن يُدرك بأن مَنْ جُنِّدوا كقوى شدّ عكسي سيحتويهم التغيير وإن ببطء. والتاريخ شاهد على ذلك.
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4389 - الجمعة 12 سبتمبر 2014م الموافق 18 ذي القعدة 1435هـ
سؤال
هل تعتقد ان في امل؟
التغيير الإجتماعي قادم:
مع قرب الإنتخابات النيابية في البلد، ادعو القوى الطائفية والمتمسكة بالدكتاتورية الى قراءة الواقع المؤلم والمبادرة الى تغيير الأوضاع قبل ان ترغمها سنن التاريخ الجارية، هل من مجيب!!!
شكرا
كل التقدير لك استاذي
يارب
اتمنى ان يكون حسن الظن هذا صحيحا في العبيد