العدد 4388 - الخميس 11 سبتمبر 2014م الموافق 17 ذي القعدة 1435هـ

لن ترسم العبثيات مستقبل العرب

علي محمد فخرو comments [at] alwasatnews.com

مفكر بحريني

عندما كتبت في الأسبوع الماضي عن نواقص ومطبات ممارسة الديمقراطية في الغرب، لم أقصد، بالطبع، الانضمام إلى جوقة المحذّرين، بلؤم وتلفيق وكذب على النفس، من انتقال مجتمعات العرب إلى الديمقراطية لإيمانهم الراسخ الانتهازي بعدم ملائمة الديمقراطية لمزاج العرب كبشر؛ ولثقافتهم وأوضاعهم الاجتماعية المليئة بالتخلف. وهذا التحذير بالطبع يصب في خدمة المستبدين والفاسدين.

المطلوب كان هو العكس تماماً. المطلوب هو أن تحاول أمة العرب عيش تجربة جديدة مماثلة لما أنجزته منذ خمسة عشر قرناً بالنسبة لحملها مشعل رسالة دينية جديدة، تمثلت في دين الإسلام. لقد كانت هناك ديانات عديدة، وكان بالإمكان تبني إحداها، وبالتالي تجنب الصراعات والعرق والدموع التي تصاحب تبني الجديد. لكن أمة العرب رأت ما اعتبرته في زمانها نواقص في هذا الدين أو ذاك فتطلعت إلى ما اعتقدت أنه سيكون أفضل، فوجدته في الرسالة السماوية الجديدة المعروضة عليها من قبل رسول نبي جديد. فكان أن حملت تلك المسئولية التاريخية وضحّت من أجل ما آمنت بأنه جزء من مسئوليتها تجاه العالم، فكان ذلك التاريخ المبهر لمن كان العالم يومئذ لا يرى فيهم أكثر من بدو جهلة فقراء أجلاف متصارعين.

اليوم، في ضوء وألق ذلك التاريخ، يحق لنا أن ننظر إلى ديمقراطيات الآخرين بنفس تلك العين الناقدة والروح المتطلعة إلى ما تعتقد أنه سيكون الأفضل. ومن البداية يجب التأكيد بأنه لا في الماضي كانت التجربة تحقيراً للديانات الأخرى، ولا في المستقبل ستكون تحقيراً لديمقراطيات الآخرين.

ديمقراطية الآخرين، مثل الديانات الأخرى التي نظر إليها العرب منذ خمسة عشر قرناً، فيها الكثير مما هو حسن ومبهر ومطلوب، لكنها لا يمكن أن تكون نهاية المطاف، فالإنسانية ستبقى إلى نهاية وجود عالمها تتطلع نحو الأسمى والأنقى، تماماً مثلما أمرت كل الديانات السماوية وغير السماوية ذلك.

ونحن، إذ ننتقي التمعن في الديمقراطية (أو الديمقراطيات) الغربية فلأنها أفضل الموجود في عالمنا اليوم. ولكن كونها الأفضل لا يعني أنها هي الأقصى الممكن، أو أنها -كما ادعى البعض- هي نهاية التاريخ، أي السقف الأعلى الممكن لمسيرة الديمقراطية.

إذاً، ونحن هنا لا نثرثر ولا نضحك على النفس، فمن حق العرب وواجبهم أنهم مثلما انتقلوا من جاهلية الشرك والممارسات الدينية البدائية البليدة، إلى ما اعتبروه ديناً ملائماً لهم وللإنسانية، فإن المطلوب، وهم ينتقلون من استبداد الماضي وممارسات الحكم البدائية البليدة المليئة بالنواقص إلى ما يعتبرونه نظام حكم أفضل وأسمى، فإن المطلوب هو أن يحاولوا القفز فوق ما هو موجود إلى ما هو أحسن مستوى وأفضل تنظيماً مما هو موجود.

هل هذا صعب؟ نعم، ولكنه غير مستحيل، ويستحق المحاولة على الأقل. تدفعنا إلى ذلك أحداث وممارسات وحقائق كثيرة في عصرنا الحالي. فالديمقراطية في العديد من المجتمعات أضحت ممارستها مثل توالد وتربية الأسماك في الأحواض المائية الاصطناعية. إنها أسماك بلا طعم منعش ولا مذاق حسن.

والديمقراطية في واقع ممارساتها الحالية عبر العالم كله يستحوذ عليها، بالسرقة والتشويه والتضليل، كل أنواع القراصنة من سياسيين وأصحاب ثروة ودكتاتوريين متخفين وراء ألف قناع.

وباسم دمقرطة الثقافة هبطت الآداب والفنون وبرامج الإعلام إلى مستويات متدنية في محتواها وقيمها وذوقها وعمقها الفكري، لتنتج بدورها أناساً غير صالحين لحمل مسئوليات المجتمع الديمقراطي.

والديمقراطية السياسية أصبحت في ضعف متزايد في عالم أضحت فيه الفروقات بين مؤسسات المجتمع المدني، وعلى الأخص الأحزاب السياسية، فروقات غير فكرية أو مبدئية، وإنما فروقات في مقدار ونجاعة البهلوانية التي تمارس في لعبة الوعود والأكاذيب والتلاعب بعواطف الجماهير من أجل استلام الحكم والبقاء فيه. وبسبب ذلك أصبح النظام الديمقراطي لا يجتذب للعمل في الحياة السياسية إلا أنواعاً من البشر تتصف غالبيتهم بالبذاءة والسلوكيات اللامسئولة، ما أفسح المجال لأن يصبح كل من يملك نفوذ ومؤسسات المال رجل دولة.

كل ذلك أدى إلى خلق بيئة ثقافية اجتماعية تزيد من سقم الديمقراطية، وذلك بعد أن تضاءلت التعددية الفكرية السياسية بين الأحزاب فأسقمت السياسة، وبعد أن تقلصت الطبقة الوسطى في العدد والمستوى المعيشي والحيوية فأسقمت الاجتماع، وبعد أن أصبح الإعلام حبيس الإعلان وشعبية الثقافة المسطحة وثرثرة المطبلين الإنتهازيين فأسقم الرأي العام.

قد يبدو أن الكلام في موضوع الديمقراطية في أزمنة التراجع المفجع التي نعيشها هو كلام في الفاضي، غير أن الحقيقة التي ستدوم هي أن مستقبل الوطن العربي هو أهم وأكبر وأسمى من مماحكات أنظمة التسلط والفساد العابرة، ومن عبثيات «داعش» و»النصرة» وأخواتهما الطارئة.

إقرأ أيضا لـ "علي محمد فخرو"

العدد 4388 - الخميس 11 سبتمبر 2014م الموافق 17 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 5 | 5:16 ص

      حكومة

      حكومة البحرين لاتؤمن بالدمقراطيه تؤمن فقط بتسلط على الشعب الطيب وسجنه وقتله وتسفيره وقمعه يايادى مجنسه هادى هى حكومة البحرين الي ماتخاف من رب العباد سايره فى خط الشيطان المشتكى لله وشكرا الى الكاتب الشريف

    • زائر 4 | 4:51 ص

      مقال رائع

      لقد اصبت التحليل أستاذنا الكبير..

    • زائر 3 | 1:15 ص

      الأذان في قرب مثقوبة

      أستاذنا الفاضل حقا ولدت في زمان غير زمانك وتعيش بين أناس غرباء يفكرون بعقلية القرون الوسطى ولم يستفيدوا من عبر التاريخ ولا تجارب الأمم قيد أنملة فيكرروا أخطاءهم مرات ومرات كما يقول المثل أقول له طيرويقول عنزه ولو طارت

    • زائر 2 | 12:18 ص

      المصير ؟

      جمعة مباركة.. أعتقد بأن ماورد هو من جانب " فلسفة المصير" !
      كل انسان يشغله أمران (المعنى) لمايحيط به و(المصير) من أنا ؟و الى أين؟ ولم كل هذا العناء ؟ .. وهذا الجانب العاملون عليه قلة عالميا اليوم بغية أن تتلافى البشرية أخطاء أفكار وفلسفات سابقة تكاد أن تودي بها الى الانتحار !
      * سارتر عرف الانسان نفسيا بأنه ( متأله مغرور ) ومن منطلقه أقول لذلك برز لدينا عربيا على الخصوص الاستهانة بآراء الشعوب وهذه نتيجة طبيعية تصدر ممن يحيط نفسه ب" العبيد " و " الأذلاء " !!

    • زائر 1 | 11:14 م

      سؤال

      لماذا لا ترجع دكتور وتمسك وزارته التربيه والتعليم او الصحه لانك خير من اداره هذي المؤسستين

اقرأ ايضاً