تقول إحصائية صدرت عن منظمة العمل الدولية في العام الماضي (2000) إن عدد أعضاء النقابات في العالم قد انخفض إلى النصف في السنوات الخمس الماضية، وأن معدل العضوية في النقابات أصبح قرابة العشرين في المائة من مجموع العمال والموظفين. وهذه الإحصائية قد يفرح لها أولئك الذين سعوا ويسعون لحرمان العامل من حقه النقابي. ولكن نظرة متأنية حول بعض الأسباب وحول مستقبل العمل النقابي قد تعطينا صورة أخرى لا تفرح الساعي لحرمان الناس من حقوقهم.
لقد ساهمت النقابات في إنقاذ ملايين العمال في العالم ولأكثر من مائة عام من حالة البؤس والحرمان والاعتداء على حقوق أولئك الذين اضطرتهم لقمة العيش لممارسة العمل العضلي الشاق. كما ساهمت النقابات في تطوير عملية التنمية الاقتصادية التي مكنت الدول الصناعية الكبرى من تحقيق مستويات معيشية لمواطنيها وحمتها من انفجار الغضب بصورة ثورية تهدد أركان أنظمتها السياسية. والنقابات مارست دورها الريادي في تطوير وعي العمال بحقوقهم وتطوير قدراتهم الفنية لمستويات لائقة، وتحسين مستوى المعيشة بما يحقق عدلاً اجتماعياً يضمن للنظام عدم قيام ثورة ضد الحكم، من خلال الضغط باتجاه تطوير الأنظمة السياسية. والنقابات كان لها دور فاعل في تغيير الأنظمة السياسية التي أبت التغيير أو التطوير. ففي بولندا الشيوعية قادت نقابة التضامن النضال الشعبي في الثمانينات ومهدت لسقوط نظام قام على منطق القوة. وكذلك في العالم الغربي، فقد كان إضراب عمال مناجم الفحم في بريطانيا هو الذي أسقط حكومة إدوارد هيث في منتصف السبعينات.
ولكن هناك تغييرات اقتصادية – اجتماعية حدثت خلال العقود المنصرمة. فنسبة الأيدي العاملة مستمرة في الهبوط بسبب هبوط قطاع التصنيع وانخفاض أثره على الدخل القومي للبلدان المتقدمة. ويتوقع العديد من المفكرين والمحللين أن تستمر نسبة الانخفاض بين العمال (الذين يبذلون جهداً عضلياً) من وضعها الحالي (قرابة 35%) إلى 10% أو أقل من ذلك خلال العقود القادمة. وقد يصبح عدد العمال وأثرهم مماثلاً لعدد الفلاحين وأثرهم في المستقبل. فعندما كانت المجتمعات تعتمد على الزراعة أكثر من أي شيء آخر كان الفلاحون يمثلون نفوذاً كبيراً. أما الآن فهم يتراوحون في تأثيرهم على الدخل القومي (للدول المتقدمة) بمعدلات صغيرة تدور حول الخمسة في المائة.
العمال ونقاباتهم قد تأثروا بظاهرة ضمور تأثير القطاع الصناعي المعتمد على الأيدي العاملة الكثيفة، ولكن مؤسسات القطاع العام كانت قد عوضت عن قلة الأيدي العاملة من خلال دخول موظفي المكاتب (الذين لا يمارسون جهداً عضلياً) في النقابات. إلا أن الجهد الحثيث للحكومات في العالم باتجاه التخصيص يعني أن القطاع الخاص بدا يزحف على مؤسسات القطاع العام ويفرض نظام السوق (في الفصل والتعيين) على تلك المؤسسات. ولكن نظام "السوق" وعولمة التجارة بحد ذاتها تدفع باتجاهات أخرى. فالمؤسسات الاقتصادية المعتمدة على السوق ستبقى في السوق المحلي والعالمي شريطة أن توفر السلعة أو الخدمة بصورة تنافسية شديدة، والتنافس في الأساس هو لكسب الزبائن المحليين والعالميين الذين بدأوا يتذوقون ويختارون بدقة ممن يشترون. وأصبح هناك نمط تجاري وثقافي يلتزم به الزبون المحلي والعالمي. فالاتجاه هو لتحصيل تلك السلعة وتلك الخدمة التي تستحق سعرها، بالإضافة لتوفير تلك الخدمة وتلك السلعة حسب مواصفات الجودة العالمية المعترف بها والتزام مصدر السلعة بضوابط ثقافية أصبحت عالمية. فإذا كان المصدر يستخدم أطفالاً صغاراً من أجل جني الأرباح فإن جماعات الضغط والمؤسسات غير الحكومية وبعض المؤسسات الدولية بالمرصاد. وإذا كان المصدر للسلعة والخدمة يلوث البيئة أو ينشر الأمراض أو يستخدم المواد العاطبة أو تلك التي تؤثر على الإنسان على المدى البعيد، فله الويل من الملاحقات القانونية والمقاطعات الدولية. بمعنى آخر، فإن النقابات أدت دورها وساهمت في نشر هذا الوعي العالمي وحصنت المستخدمين في إنتاج السلعة والخدمة كما حصنت الزبائن والمستهلكين.
والأكثر من ذلك، فإن الذين تعتمد عليهم الشركات المحلية والعالمية لم يعودوا أولئك الذين يمارسون جهداً عضلياً بالأساس وبالتالي يحتاجون لمن يعبر عنهم أمام أصحاب المال والسلطة. وإنما هم الآن مجموعات تزداد مع الأيام وهي تعتمد في الأساس على الجهد الذهني في خلق الثورة. ولهذا فإن المفكرين بدأوا يطلقون مسميات جديدة على الأشخاص الذين يبذلون الجهد الذهني. فهناك التسمية التي اقترحها أحد المفكرين وهي Knowledge Worker. إن الاقتصاد الذي يخلق الثروة في العالم المتطور أصبح يسمى Knowledge-based بمعنى أنه يعتمد على خلق المعرفة المطلوبة لتوفير الخدمات. ويصر هؤلاء على أن سلعاً مثل السيارة تنتج حالياً بواسطة الجهد "الذهني" الذي يمثل 70% بينما بمثل الجهد العضلي النسبة القليلة الباقية.
وهذا يعني أن الجهد الذهني والشخص المجتهد ذهنياً ومعرفيا Knowledge Worker أصبح الأساس. وهؤلاء بإمكانهم التأثير والضغط على أصحاب المال والسلطة فيما لو قرروا الانسحاب من عملهم لأي سبب من الأسباب. وهؤلاء يضغطون لمشاركة أصحاب المال في السلطة والنفوذ، وإذا لم يفسح لهم المجال، فإنهم يكونون شركاتهم الخاصة بهم كما فعل ويفعل أكثر من وصلوا إلى القمة في الشركات العالمية الجديدة مثل بيل غيت مؤسس شركة ميكروسوفت. هذا التوجه أصبح عالمياً والنقابات مارست دورها في مجالها المعين.
ازدياد المنظمات غير الحكومية
إحدى ظواهر المجتمع المدني الحديث يكثر الحديث عن أهمية الأدوار التي تلعبها المنظمات غير الحكومية في عالمنا اليوم، على المستويين الوطني والدولي، فالمنظمات غير الحكومية (Non-Governmental Organisation) أو NGO بدأت تظهر بصورة أكثر تأثيراً على المسرح الدولي. وقد اضطرت منظمة الأمم المتحدة (وهي منظمة بين الحكومات) السماح للمنظمات غير الحكومية في المشاركة في النقاشات والمداولات والمؤتمرات التابعة للمجلس الاقتصادي الاجتماعي للأمم المتحدة. وقد ظهرت قوة هذه المنظمات غير الحكومية في العام 1993 عندما وازت نشاطاتها أنشطة الحكومات قبل وأثناء انعقاد المؤتمر العالمي لحقوق الإنسان في فيينا. وعندما شكلت الحكومات مجموعات لولها لمطارحة الأفكار ولم تسمح للمنظمات غير الحكومية بالحضور في تلك الاجتماعات التحضيرية، قامت المنظمات غير الحكومية بتشكيل مجموعات من نفس المناطق لتناقش وتطرح الأفكار للمؤتمر العالمي من وجهة نظر غير حكومية. وهناك اتجاه دولي يرى ضرورة استيعاب أنشطة هذه المنظمات وإلا انفتح الطريق لكيان دولي آخر، ولكن غير حكومي.
قد يكون من أبرز سمات هذه المنظمات أنها تهتم بقضايا محددة ذات أثر كبير بالنسبة لعامة الناس. فاهتمامها الأول ليس أمن الأنظمة وإنما أمن الناس وتأمين احتياجاتهم الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية وغيرها. وهذه المنظمات طوعية في الأساس وتعتمد على بحر هائل من الطاقات المتوفرة لدى الناس في شتى أنحاء العالم. بالإضافة لذلك، فإن هذه المنظمات عادة تكون عابرة للحدود السياسية Trans-national أي أنها تجمع أناساً من مخلتف البلدان يتفقون على نفس المبادئ والأهداف. فموضوع البيئة أو حقوق الإنسان وغيرها من المواضيع شأن لا يخص حدوداً معينة، وبالتالي فإن المنظمات غير الحكومية تختلف عن المنظمات الحكومية في قواعدها وفي اهتماماتها. على المستوى الوطني تعتبر المنظمات غير الحكومية ومقدار انتشارها وحريتها الدليل الأكبر للحرية السياسية المتوفرة في تلك البلدان. فالمجتمع المدني هو الأساس والعمود الفقري للأنظمة المتطورة والقائمة على أسس إنسانية. ويعرف المجتمع المدني بأنه ذلك المجتمع الذي يسمح بالتشكيلات الذاتية والطوعية والمستقلة عن الحكومة التي تهتم وترعى شؤوناً اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية. وهذه التشكيلات هي المنظمات غير الحكومية الناشطة في مجتمعاتها.
وحقيقة الأمر هي أن هذه المنظمات والتشكيلات غير الحكومية تنشأ باستمرار في أي مجتمع. والفرق أن حكومة ما تجهز جميع طاقاتها باستمرار لقهر واختراق وتحطيم تلك التشكيلات غير الحكومية. وهذه الحالة هي الحاصلة في البلدان التي تحرم شعوبها من حرية العمل السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي. ففي بلادنا العربية، مثلاً، ترى أن التشكيل الاجتماعي، الرياضي، وحتى الخيري تسعى حكومتنا للسيطرة عليه من ألفه إلى يائه. وعندما تلجا جماهير أمتنا لبعض الأمكنة المحصنة دينياً، كالمساجد، فإن الدولة من جانب، والجماهير من جانب آخر يبدأون بالتراشق في بيوت الله. والحقيقة أن مجتمعاتنا لجأت إلى المساجد والأماكن المقدسة لأنها المكان الوحيد الذي عجزت حكوماتنا البطلة من اختراقه بصورة كاملة. ووجدت الأمة أن حصنها المنيع دينها الذي يعتمد في جميع الأنشطة مبدأ القربة إلى الله. بمعنى أن من يقوم بعمل ما لا يقوم به استرضاء لحكومة وإنما لإرضاء ضميره الذي استمع إلى هدي من ربه. ولو سمحت حكوماتنا بالعمل المدني الحر، لأنهت أكثر المشاكل، ذلك لأن قطاعات الأمة لن تحتاج لأن تتحدى السلطة كما هو الحال في كثير من البلدان اليوم.
ولن تحتاج السلطة أن توظف إمكانيات الدولة لاختراق التشكيلات المدنية العلنية الطوعية إذا كانت قد استطاعت أن تخلق الثقة بينها وبين مواطنيها.
إن مبدأ الدولة قائم على الاجماع الوطني المتوفر لدى أغلبية الأمة. وهذه الدولة تستطيع أ، تمارس دورها في إنماء المجتمع لأن الأمة تقف غلى جانبها في الشدة والرخاء، والحكومة نابعة منها وإليها. والاختلاف الطبيعي (والمستمر دائماً) يتم حله بالوسائل السلمية وعبر السماح للمنظمات والتشكيلات غير الحكومية، التي تسمى مجموعات ضغط، بممارسة دورها ضمن الإطار المتفق عليه وداخل حدود حكم القانون. والحقيقة أن أي فئة حاكمة تحاول أن تصادر دور شعوبها فيما لو سمح لها أن تفعل ذلك. ففي بريطانيا مثلاً، ثار جدل كبير حول منظمات ظهرت أثناء حكم السيدة مارغريت ثاتشر. هذه المنظمات قالت السيدة ثاتشر أنها غير حكومية وأطلق عليها اسم Quango وهي اختصار لـ Quasi-Autonomous Non-Governmental Organisation بمعني "المنظمات غير الحكومية ظاهرياً". وأصبحت هذه المنظمات أحد الأنواع التي تراقبها الصحافة، وتراقب كيف تعمل وماذا تعمل. وبهذا لا خطر من تواجد منظمات حكومية أو غير حكومية ظاهرياً، مادام هناك تواجد لمنظمات غير حكومية ولصحافة حرة مستقلة.
وهناك نوع آخر من المنظمات غير الحكومية يطلق عليها باللغة الانجليزية Gongo وهذه الحروف اختصار لـ Quasi-Autonomous Non-Governmental Organisation. هذا النوع من المنظمات عبارة عن مؤسسات تشكلها الحكومات لاستخدامها كوسيلة خادعة لمحاربة تكوين منظمات غير حكومية حقيقية. هذه المنظمات الوهمية أخطر من المؤسسات الحكومية العلنية لأنها تسعى لمصادرة الاسم والمضمون الذي ينبغي أن تشمله مؤسسات المجتمع المدني.
العدد 4386 - الثلثاء 09 سبتمبر 2014م الموافق 15 ذي القعدة 1435هـ