جاء في وصية للامام علي عليه السلام "اوصيكم بتقوى الله ونظم امركم واصلاح ذات بينكم".
لا يختلف اثنان حول ضرورة التنظيم لتسيير أي من الشؤون الحياتية. وبما أن الإنسان بطبعه اجتاعي، وينزع للالتقاء مع الأشخاص الذين يوافقهم في الرأي حول قضية من القضايا، فإنه لا يستطيع التخلي عن المشاركة في نوع من أنواع العمل التطوعي، سواء كان ذلك في الدراسة أو العمل أو المجتمع أو التخصص أو ما شابه.
تختلف الأعمال التطوعية عن غيرها في مسالة "الطوعية"، مما يثير أمرا هاما في مسيرة العمل التنظيمي. فيرى البعض أن التنظيم قد يجر إلى تصرف غير مقبول وغير لا ئق في طاقات الآخرين الذين انخرطوا في العمل عن إرادة ذاتية ودافع مبدئي لا يحتاج "لأوامر" تفرض عليه ماذا يجب ان يعمل.
يرى البعض أن تسليم زمام الأمور لجهة معينة هي مخالفة لمبدأ "تساوي الجميع"، وان خلق المناصب يخنق المبادرات العفوية وأن الأفضل للعمل التطوعي أن يسير عبر الرضا الجماعي العفوي، وان لا يتخذ قرار دون "موافقة الجميع"... الخ، ذلك لأن المسيرة التطوعية تعبير عن فهم مباشر (دون تعقيد) للأهداف والوسائل.
وفي الحقيقة أن كثيرا من العقبات التي توضع امام العمل التطوعي نابعة من رفض الشخص (وهو أمر طبيعي) لتسليم زمام أمره لشخص آخر. وهو أن سلم أمره في الأعمال غير التطوعية إنما يعمل ذلك خوفا على معاشه كما هو الحال في مجال العمل أو على حياته كما في الأوضاع الدكتاتورية، أو لأسباب اخرى تقترب او تبتعد عن هذا الطرح. فهل هذه النظرة صحيحة؟ لننظر ماذا يحدث للعمل التطوعي لو ترك على الطريقة العفوية فحسب. نرى أنا لعمل يتحول إلى فوضى وتصبح الأهداف غامضة ومتقلبة، وتتحول المقولات المثالية إلى أداة تخديرية للعمل المتعثر. فمثلا، كثيرا ما نسمع البعض يردد "ان الثبات على الخط هو إنجاز" لتبرير عدم تطوير وتوسيع العمل. كما نسمع البعض يردد "أن أهدافنا شاملة" و"ان مجرد تواجدنا في الساحة انتصار" وغيرها من الجمل النبيلة التي قد تبعث على النفس الارتياح لكنها لا تعطي مقاييس محددة للنجاح والفشل.
وليس من المستغرب ان نجد مقاومة لتحديد مفهوم للخسارة والربح في بعض الأوساط، لأن تحديد معنى النجاح يعني احتمال الفشل. ولكن في الحقيقة هذا الارتياح النفسي تلفه الآلام ويبعث الحيرة في النفوس ولا يمكن المجموعة العاملة من إجراء تقييم موضوعي لمسيرة عملها.
المسيرة تصبح بعد ذلك عرضة للتغيير المتكرر للأهداف والاتجاهات، وبما أن المسيرة تقبل أي نشاط وليس هناك "رئيس ومرؤوس" يمكن لشخص ما أن يحرف المسيرة عن هدفها الأصلي بمجرد أن يتبرع بجهد مكثف أو قدر معين من المال لتسيير العمل. فالوضعية العفوية غير المحددة تترك العمل التطوعي تحت رحمة إهداء الأشخاص لأوقاتهم وأموالهم. وعندما تشتد الظروف ينتج عن العمل التطوعي تشاحن وزعل وتعب نفسي وإهدار للطاقات والإمكانات.
السؤال الذي يطرح نفسه هو كيف نجح أناس آخرون في إدارة عملهم التطوعي وكيف تفشل مجموعة من أطيب الناس في وسطهم من إنجاز عمل خير تطوعي بصورة مشرفة؟ الجواب هو أنه لا بد من وجود طريقة أفضل لتنظيم العمل التطوعي. والمشكلة تكمن في تصورنا لطبيعة العمل التطوعي. الكثير يتصور العمل التطوعي تصورا ميكانيكا: فلان يأمر وآخر ينفذ!.. فلان يتعامل مع الآخرين كتعامله مع سيارته مثلا! فلان يريد أن يتسلط على طاقات الآخرين!
الأمور ليست هكذا، ولا يوجد عمل ناجح حتى في الأعمال غير التطوعية يعتمد على هذه الأساليب الحرفية في التنظيم. أن المؤسسات الناجحة تتعامل مع المسألة التنظيمية بأسلوب آخر أخذة بعين الاعتبار ان الطاقات الإنسانية ليست موادا جامدة جاهزة للصف والتضبيط. أن المسألة التنظيمية ينظر إليها كما ينظر للعملية السياسية التي تخضع لقوى متضاربة واتجاهات متنافسة لنظم مسيرتها عبر إطار معين. هذا الإطار تحدده ثقافة وقيم مشتركة، وشبكة اتصالات وتحالفات، وتأثير وإقناع وتنازل وتراض وقيادة عادلة.. وليست "أمر" ومأمور".
أن أي فرد يلتحق بمجموعة تتناسب مع طبيعته لا بد وأن له حاجات وأهداف معينة يتوقع تحقيقها من خلال مشاركته للمجموعة. ومن جانب آخر، تتوقع المجموعة من الفرد القيام بأعمال معينة لضمان استمراريته ضمن المجموعة. إن عملية توازن توقعات الفرد والمجموعة هو بمثابة الاتفاقية "المعنوية" التي يلتزم بها كل طرف. فالفرد يتوقع المعاملة الإنسانية وفرص النمو، وتتوقع المجموعة الإخلاص وزيادة بذل الجهد والعطاء الفردي. أما إذا اختلت التوقعات ببين الفرد والمجموعة فإن العلاقات تختل وتتفكك.
لكل امرء دور يلعبه، هذه حقيقة لا تحتاج إلى جدال. والعادة أن كل دور يعطى اسم. إلا أن إحدى الظواهر السلبية في العمل التطوعي هو نزوع الفرد إلى التهرب من لعب دور محدد واللجوء إلى القيام بعدة أدوار تدخل ضمن مسؤوليات الغير. لا بد من التأكيد هنا على التزام كل فرد بدائرة محددة من المسؤوليات وعدم التضارب مع دوائر الغير. هذا من أجل إزالة الالتباس في الأدوار والغموض في المسؤوليات. وبالتالي يمكن لكل فرد أن يعلم ما هو متوقع منه. عندما تتحدد الأدوار ينتج ما يلي:
1- يسهل تجميع المواهب وتخصيصها في مجالاتها المهمة.
2- يسهل ضبط العمل عبر تنظيم الأدوار بواسطة أشخاص مناسبين.
3- يسهل حل المشاكل واتخاذ القرارات بالاجماع.
4- يسهل ايصال المعلومات اللازمة لمن يحتاجها في مجال معين.
5- يسهل جميع المعلومات والخبرات والأفكار.
6- يسهل اختيار الأفراد وانتخابهم لمسؤوليات أكبر.
7- يسهل التنسيق والتواصل بين المهام المختلفة.
8- يسهل عملية المشارة الفعالة والالتزام المطلوب ويشجع الأفراد على المشاركة في التخطيط للأنشطة.
9- يسهل حل الخلافات.
10- يسهل عمليات التقييم الدورية.
المجموعة الفاعلة: عندما يتم توزيع الأدوار بصورة عادلة وحسب القدرات الشخصية وعن ما تتكامل المجموعة فإن المجموعة الفاعلة قد تحتوي على النماذج التالية:
1- الرئيس: وهو الشخص المنسق بين الأدوار، منضبط وذو تركيز على الأهداف ومتزن في تصرفاته ويجيد الاستماع للآخرين ويمتلك خصلة العدالة للحكم بين الأشخاص. كما أنه قابل للمحاسبة والتغيير من خلال عملية انتخابية دورية.
2- المدير: وهو الشخص الذي ينفذ الأعمال. مملوء بالحماس والقوة في العمل ويسعى لانجاز المهام مهما صعبت. كما أنه قابل للمحاسبة والتغيير من خلال عملية انتخابية دورية.
3- المفكر: وهو الشخص الذي يحمل أفكارا كثيرة. هادئ وحساس وقد لا يهتم بالتفاصيل.
4- المصحح: وهو الشخص الذي لديه قابلية الانتقاد البناء لكشف الأخطاء بأساليب تحليلية. وقد يكون أقل مشاركة من غيره في الأمور التفصيلية.
5- الكاسب: وهو الشخص الذي يمتلك مواهب شخصية تؤهله للقيام بمهام العلاقات العامة لكسب الآخرين العمل.
6- الحركي: وهو الشخص الذي يترجم الأفكار والإرشادات لواقع عملي وهو الذي يهتم بالتفاصيل الدقيقة.
7- الجامع: وهو الذي يؤلف بين القلوب (إصلاح ذات البين) عبر حملة لهموم الأشخاص ورعاية المسيرة.
8- المكمل: وهو الشخص الذي يحرص على إكمال العمل والوصول إلى الهدف دون تهاون.
المجموعة غير الفاعلة: أما هذه المجموعة فقد تحتوي على أشخاص من النوعيات التالية:
1- العدواني: ينتقد ويحرف اتجاه العمل باستمرار، ويتهجم على الآخرين.
2- المعارض: يعارض كل شيء ويرفض الأفكار لأنها جاءت من غيره ويستخدم حججا غير حقيقية لتعطيل الأعمال.
3- المنسحب: الذي لا يشارك بصورة واضحة في العمل ولا يخبر الآخرين بما يريد، ولكنه أيضاً يتكلم بصورة غير لائقة أمام أشخاص خارج المجموعة.
4- الفوضوي: لا يلتزم بأي ضابط معين، ولديه استعداد للجوء إلى أساليب ازعاجية بصورة مستمرة.
5- محب الظهور: يتحدث كثيرا عن نفسه ويمجد في ذاته ويحاول طمس الآخرين.
6- متقلب الأهداف: يغير أهدافه ويقلب المواضيع ولا يركز على أمر معين.
7- محب الفتنة: إذا كان هناك عمل يرضيه فهو نشر الفتنة والنميمة والغيبة والاستمتاع بالمشاكل الناتجة عن الخلافات الشخصية.
الطريق إلى العمل التطوعي الناجح: هناك عامل أخرى لا بد من معالجتها وهي تتعلق بتواجد الفرد مع المجموعة.
1- هل أن وجودك مع المجموعة هو أمر قسري وخارج عن ارادتك وأن مجال الاختيار في دخولك وخروجك من الجماعة ليس بالأمر السهل؟
2- هل أن وجودك مع المجموعة من أجل حسابات معينة، مثلا إذا خرجت فإنك ستخسر مال وجاه وأمور أخرى؟
3- أم أن وجودك مع المجموعة لأنك توافقهم في الأهداف والأطروحة وتثق في الأشخاص القائمين بالأعمال الأخرى؟
إذا لم يكن العمل التطوعي من النوع الأخير فإنه لا يمتلك مقوما أساسيا لنجاحه، إذ لا يستطيع أي فرد البقاء مع مجموعة عمل تطوعي إذا كان لا يؤمن بالأهداف والوسائل والأشخاص.
وفي الواقع العملي، فإن كثيرا ما يحصل اختلال حول الأهداف والوسائل والشخصيات ولا يمكن معالجة الأمر بواسطة سحرية، ولكن من الممكن الالتزام بما يلي:
1- عدم محاولة فرض أهداف على الآخرين، لا بد من ترك المجال لكل فرد أن يحدد أهدافه ضمن الأجواء العامة. ولكن مطلوب من كل فرد أن يوضح بصورة محددة ما هي أهدافه لكي تتم عملية التقييم بصورة موضوعية.
2- عدم الصراخ وتجريح الأشخاص الذين يكررون الأخطاء. ولكن يلزم التأكيد على أن الفرد لا بد أن يتعلم من الأخطاء وأن يعيد النظر ويعرف أهدافه مرة أخرى. (أعفو عن المخطأ ولكن ليس عن الخطأ).
3- على كل فرد أن يعلم أن كل فرد من ا لمجموعة يختلف عنه في عدة أمور. ولا بد من مصارحة كل طرف الآخر حول توقعاته النفسية.
4- عدم إجراء التقييم الدوري لجرد الأخطاء فقط. لا بد من ذكر العمل الجيد الذي تم إنجازه.
5- اجعل علامات واضحة لتقييم العمل الجيد لكي يعلم كل امرئ متى أصاب ومتى أخطأ دون الحاجة إلى أن يخبره أحد.
هنا لا بد من الإقرار أن كل مجموعة سوف تحتوي على أفراد ذوي مواهب وقابليات مختلفة، وبالتالي احتمال تفاوت النفوذ والتأثير بين أفراد المجموعة. ولكن بدلا من انشغال الأفراد في التنافس الذي يؤدي للتشاحن يمكن للمجموعة أن تحقق لنفسها الانجازات المشتركة عبر بث روح الطمأنينة والود والإحساس بالانتماء الايجابي الذي يعطي الأفراد الفرصة للمشاركة في التخطيط والتنفيذ.
وهذا يتم عبر ما يلي:
1- تنمية الثقة المتبادلة وقبول الأشخاص لبعضهم البعض.
2- إزالة السلوك الدفاعي (أنا لم أخطأ).
3- فتح الاتصالات بين أفراد المجموعة بأكبر قدر ممكن.
4- حل الخلافات مهما كانت صغيرة والقضاء على الفتنة في مهدها.
5- خلق أجواء غير رسمية ومريحة اجتماعيا.
6- مشاركة أكبر عدد ممكن في اتخاذ القرارات. ولكن يلزم التأكيد أن العمل لا يمكن أن يتحرك إذا لم يعط الأشخاص صلاحيات محددة دون الحاجة للرجوع في كل صغيرة إلى المجموعة من أجل الموافقة.
7- التأكد من وضوح الأهداف لدى الأشخاص ومعرفة كل فرد ما هو متوقع منه.
8- تشجيع الانتقادات الصريحة والبناءة عبر إزالة الجوانب الشخصية من المواضيع.
9- لكي لا تتمرد المجموعة يلزم اختيار الشخص العادل لقيادة العمل.
10- محاولة إعطاء الفرصة لأكبر عدد ممكن من الأفراد لإبراز صفاتهم القيادية. ويتم ذلك عبر تكوين فرق مختلفة لمدد معينة وأهداف محددة، ويترأس كل فرقة شخص مختلف. ولكن لا بد من الرجوع في نهاية الأمر للشخص الذي انتخب مسؤولا عاما عن المسيرة للفترة المحددة. ويمكن استخدام هذا الأسلوب كوسيلة لتدريب الأشخاص.
11- خلق أجواء ثقافية لتحديد القيم المشتركة والطرق المقبولة لتسيير العمل. ويمكن انجاز ذلك عبر ندوات عملية حول مواضيع مثل تنظيم الوقت، تنظيم الجلسات، تحضير المقالات، مفاهيم عامة، وغيرها من المواضيع ذات الأهمية في هذا المجال.
نأمل أن يوفقنا الله لإيجاد الأرضية الصالحة للعمل التطوعي والابتعاد عن السلبية والأنانية والتسيب والتراجع عن المبادئ ذلك (إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم).
العدد 4385 - الإثنين 08 سبتمبر 2014م الموافق 14 ذي القعدة 1435هـ