العدد 4382 - الجمعة 05 سبتمبر 2014م الموافق 11 ذي القعدة 1435هـ

جدحفص وجاراتها: مثلث الغموض والأسرار

عرضنا في الحلقات السابقة تاريخ عدد من مناطق البحرين، وليس الغرض من ذلك هو تجزئة تاريخ البحرين؛ فإن إبراز تاريخ كل منطقة هو إبراز لجزء من تاريخ البحرين القديم، فهوية كل منطقة جزء من هوية شعب البحرين القديم. هناك صراع خفي، وقد يظهر أحياناً للعيان، حول التفاخر والتباهي بتاريخ مناطق وقرىً معينة؛ فللأسف الشديد لازال البعض يستقرئ التاريخ بعصبية، فيفاضل بين تاريخ القرى والمناطق، أيهما أكثر قدماً وعراقة، ويتناسى أن كل المناطق تعكس عراقة بلد واحد وشعب واحد. إن مثل هذا الاستقراء التاريخي المتطرف له سلبياته فهو يؤدي إلى تنامي شعور الانتماء المناطقي أو القروي، بالإضافة إلى عدم خلوه من المبالغات التي تخرج عن حدود توثيق التاريخ بالطرق العلمية الصحيحة.

إن تنامي مثل هذا الشعور بالانتماء المناطقي أو القروي، والتشبث به وربما التعصب له نتج عنه تاريخ مستقل لكل قرية أو منطقة، وربما زعم البعض أن لكل منطقة أصل قبلي مختلف عن الآخر ولهجة وتراث وثقافة مستقلة عن غيرها؛ مما يحول هوية سكان تلك القرى إلى هويات متفرقة وربما متصارعة فيما بينها على تاريخ هو في الأصل تاريخ مشترك. وقد وصف العوامي التشبث بهذا الانتماء بالتقوقع «داخل إطار شرنقي ضيق إن تجاوز (الحارة) لم يتخطَ القرية، وما يؤسف له أشدَّ الأسف أن يتسرب شعور (الشرنقة) هذا إلى طبقة المثقفين ممن يفترض تمتعهم بالوعي والبصيرة، والحس الاستشرافي، فيدركوا مخاطر سيادة مشاعر العزلة والتجزئة خصوصاً في هذا العصر» (العوامي 1996، الواحة العدد الخامس).

إن تاريخ البحرين القديم يمثل أحجية، وتاريخ المناطق يمثل قطع الأحجية، كل قطعة تكمل الأخرى. وهناك تبادل أدوار بين هذه المناطق. فقد سبق أن أوضحنا في سلسلة سابقة أن البلاد القديم كانت مركز الاهتمام ولعبت دوراً مهماً منذ أن تأسست في منتصف القرن السابع الميلادي وحتى نهاية حقبة القرامطة في منتصف القرن الحادي عشر الميلادي. وبعد ذلك تغيرت الأدوار، فتوجهت الأنظار إلى المدينة الإسلامية التي بنيت في منطقة القلعة والتي استمرت لقرون، قبل أن تهجر لتظهر بعدها منطقة حلة العبد الصالح، وبعدها يعود الاهتمام بالبلاد القديم قبل أن تتحول الأنظار للمنامة.

عندما نرسم هذه المواقع المهمة التي كانت مراكز اهتمام وتمركز في حقب مختلفة من الزمن، نلاحظ أنها جميعها تقع على حدود منطقة غنية بالآثار التي تكون سلسلة متتابعة منذ حقبة دلمون وحتى العصور الإسلامية. إنها منطقة الغموض والأسرار.

سور من النخيل وآخر من التلال

تعتبر منطقة جدحفص وجاراتها التي تحيط بها من أقدم مواطن الاستيطان في البحرين. هذه المنطقة فقدت الكثير من جمالها وآثارها عبر الزمن؛ فقد كانت هذه المنطقة تبدو في السابق كالمنطقة المسورة بأسوار من النخيل والتلال الأثرية، فهي محاطة من الجهة الشرقية بالنخيل ومزارع منطقتي الجبلة والبجوية (البرهامة حالياً). وأما الجهة الشمالية فمحاطة بسور كثيف من النخيل، هذا السور الكثيف وصفه Bent في العام 1890م بقوله:

«وبعد مغادرة المنامة ... نصل إلى حزامٍ من النخيل يمتد عدة أميال وعرضه من ميلين إلى ثلاثة ... وهذه المنطقة خصبة جداً وجميلة، فهي تمتد على طول الساحل الشمالي للجزيرة» (رايس 2009، ص 98 - 99).

وأما الجهة الجنوبية فقد كانت محاطة بتلال القبور الأثرية، والتي قال عنها Durand في العام 1880م «وما يلفت الانتباه هنا (يقصد جدحفص) وجود العديد من التلال المرتفعة الجرداء الخالية من الأشجار» (رايس 2009، ص 30).

هذه التلال تمتد حتى تتجاوز قرية الحجر وقد وصف Bibby هذه المقابر في العام 1954م:

«بعد قرية جد حفص تبدأ الصحراء بالتداخل بين الأشجار والشارع (أي شارع البديع)، وفي الأميال الثلاثة التي تلي ذلك، يبدو الطريق وكأنه محاط على جانبيه بشريط رملي عرضه نصف ميل، ويلاحظ في هذا الشريط الصحراوي عدد لا يحصى من تلال المدافن، ربما يصل عددها لأكثر من ألف. هذه التلال تختلف تماماً عن تلال مدافن العصر البرونزي (أي تلال المدافن الدلمونية)» (Andersen 2007، p. 227).

أما الجهة الغربية لهذه المنطقة فكانت أيضاً محاطة بالتلال التي كانت منتشرة في قرية الحجر والمقشع إلا أن غالبية تلك التلال تم إزالته وبناء منازل وطرق في مواقعها، على سبيل المثال كان يبلغ تلال قبور قرية المقشع ما بين 20 - 30 تل ولكن تم إزالة جزء منها عندما تم شق الطريق من المنامة للبديع في العام 1936م (بوتس 2003: ج 2، ص 819). وهذا الشارع طمس أيضاً جزء من آثار قرية أبي محارة التي كان موقعها بين قريتي القدم والمقشع، والتي لازالت توجد آثار لها ضمن ما تبقى من تلال المقشع الأثرية.

إذاً هكذا كانت تبدو جدحفص وجاراتها، محاطة بالنخيل والتلال الأثرية التي تدل على قدم الاستيطان فيها.

تسلسل زمني متواصل

إن تلال القبور التي تحيط بجد حفص وجاراتها تتميز عن غيرها من المقابر؛ فبعكس المقابر الأخرى، فإن الحقب الزمنية للقبور فيها تمثل تسلسلاً متتابعاً منذ العام 3000 قبل الميلاد، ومروراً بجميع الحقب التي تليها حتى الحقب الإسلامية، بما في ذلك حقبة استيطان القبائل العربية قبل الإسلام، وحقبة صدر الإسلام، وهي من الحقب التي لم يعثر عليها إلا في هذه المنطقة، وسوف نتطرق إلى ذلك بالتفصيل لاحقاً. وللأسف الشديد فإن عدداً من المواقع الأثرية في هذه المنطقة لم ينقب فيها، وجزء آخر أزيل قبل أن ينقب فيه، وحتى غالبية نتائج التنقيب في المواقع التي نقب فيها لم تنشر بعد بصورة مفصلة. إلا أن ما نشر منها وما تسرب منها كافٍ ليمكننا من رسم تطور الاستيطان في هذه المنطقة. فبعض هذه الدراسات وبالخصوص تلك التي تناولت نتائج المنقبين المستقلين الذين سربوا المقتنيات الأثرية إلى خارج البحرين قبل سن قانون الآثار عام 1969، إضافة لنتائج البعثة الدنماركية، هذه الدراسات، تشير إلى التسلسل الآثاري الذي يبدأ بحقبة دلمون ثم تايلوس ثم العصر الجاهلي وتليها الحقبة الإسلامية المبكرة، أي أنها تحتوي على آثار تشمل تلك الحقبة الممتدة بين الأعوام 450م - 700م وهي الحقبة التي زعم البعض أنها مفقودة في تاريخ جزيرة أوال (Bibby 1954)، (Porter and Boutin 2012)، (Salles 1984)، (Andersen 2007)، (During-Caspers 1980)، (Rice 1971).

للأسف على مدى السنوات اللاحقة وأعداد التلال في هذه المقبرة تتناقص حتى أصبحت تلك المقابر مجرد قبور متفرقة هنا وهناك، وما يستخرج منها لا يمكن التعويل عليه في معرفة ثقافة الشعب المحلي في تلك الحقبة. ومن التلال التي عُرفت مواقعها في هذه المقبرة، تلال الحجر، وتلال المقشع، وتلال جدحفص التي تقع شرق المقشع وغرب قرية الديه (وقد أشير لها في بعض الدراسات بتلال غرب مروزان)، وتلال جبلة حبشي والتي تقع شرق مدرسة جدحفص الإعدادية للبنين، ومجموعة تلال متجاورة تبقى منها جزء في مدرسة جدحفص الثانوية للبنات، وأخرى بالقرب من مسجد بنت يحيى. أما تفاصيل هذه المقبرة، ونتائج التنقيبات فيها، فسوف نتناولها بالتفصيل في الحلقات القادمة.

العدد 4382 - الجمعة 05 سبتمبر 2014م الموافق 11 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان
    • زائر 1 | 4:47 ص

      موضوع جميل

      اخي الكاتب حبذا لو تكتب في الاعداد القادمة عن باقي قرى البحرين مثل راس الرمان و المنامة والسقية والجفير وام الحصم و ....................الخ مع ذكر لماذا سميت بهذة الاسماء. وشكرآ .

اقرأ ايضاً