بعضهم ينظر إلى رحيل الشعراء، بوصفه «غياباً» يُنهك «الحضورَ» الناقصَ أساساً. الناقص بكل الأخطاء المفتوحة على احتمال التهديد والاستهداف. الناقص بتعمّد إجلائهم من مشهد الحياة اليومية، ليس باعتبارهم «غاوين»؛ بل باعتبارهم أداة تحريض وهدم. هدم للمهدوم أساساً!
بعضهم يرى في رحيلهم إعادة اعتبار لحياتهم التي لم يتم الالتفات إليها، وحان أن نشعر (نحن الذين يتم وضعنا بحكم الترتيب في خانة الجمهور) بأنهم كانوا هنا. في تفاصيل الحياة. في التنبيه والنبوءة وقراءة المستقبل، والسهر على الحاضر. تجبيره من الخيبات وسوء الطالع، وعَسَس النوايا! اللغة تتولى ذلك، وموقف أصحابها في رؤيتهم للوجود، وعلاقتهم بالعدم أيضاً! الأداة الوحيدة التي يشهرها الشعراء في وجه العتمة التي تكاد تكون «الضوء العربي الماثل»! الأداة التي ترمي إلى أن يقرأ العرب فصل انقراضهم الأخير من خريطة الجنس البشري!
في هذه البريّة المفتوحة على الأردأ بعد أن تحقق فيها الرديء، ما كان للشعراء أن يُنجزوا مشروعهم لولا قدرتهم الاستثنائية على الدخول في حوار مفتوح حتى مع الكوارث من حولهم، تلك التي تحوَّلت إلى أورام لديها خريطة الجسد الذي تحفظه عن ظهر قلب، لتمعن فيه فتكاً وإنهاكاً حتى إسلام الروح.
الرحيل المرّ، وليس الغياب، ذلك الذي حجز تذكرته الشاعر الفلسطيني سميح القاسم، لا يعدو كونه استمراراً لحضور من نوع آخر. حضور الأثر. الأثر المكتنز بكل ذلك الإرث الضخم من الغناء/ الكلام/ النص. الغناء في منتصف النعي والرثاء. الكلام في صمت يأخذ سِمَةَ «الكلام رمزاً». النص، ذلك الذي يتوزّع على مساحة الحنين الخاص؛ لكنه يمتد ليدخل في مصاهرة لا تقبل الشرط والوصفات مع الحنين العام. حنين ناس المكان وما بعدهم. ما بعد ذلك المكان، وصولاً إلى الإنسان في أقصى بقعة على هذا الكوكب.
الشعراء لا يكتبون لأوطانهم حين يفعلون ذلك. يكتبون عن وطنهم من الحدود الفاصلة والمسجّلة والمعترف بها في الأطلس، إلى تلك التي لم يمْسَسْها سوء اكتشاف الدول والإمبراطوريات التي تبحث عن تمدّدها خارج المجموعة التي ينتمي إليها كوكب الأرض!
كتب القاسم أوطانَ الناس جميعاً في ما كتب عن فلسطين. فلسطين الوجع الذي لا يريد له بعض العرب انتهاءً؛ لأنه الفرح المقيم بالنسبة إليهم! ولن يفرّطوا في مثل فرح يروْنه قياسياً بقياسية المأساة وإقامتها في ذلك الحدّ الفاصل بين قيامة العرب ونومهم/ موتهم الأبدي!
كتب الحدودَ المفتوحة لأولئك البشر، في وطن سِمَتُه الحواجز والمعابر وأسوار الفصل العنصري، في اختزال لا يتاح إلا للذين يؤسِّسون لحضورهم الدائم في ذاكرة عدوِّهم، قبل ذاكرة الأصدقاء والذين يحبونهم.
في مثل الرحيل ذاك، تنشط الإقامة وتتمدّد، استرجاعاً لما تم ركْنه وتأجيله وإهماله من إرث القاسم، وإرث طوابير طويلة من الشعراء «الغاوين» بمقياس الانتباه والوعي المشروط، والمحدّد مداه.
سبق محمود درويش في رحيله القاسم، وسبقه في الإقامة، وبتدشين الأخير لإقامته، ثمة ضرورة وحاجة لإعادة النظر في الفهم العربي القاصر اليوم، وعلاقته بثنائية الرحيل والإقامة، وهو ما لم يقرأ أيٌّ منهما إلا في حدود التعاطي مع الوهم الذي يمارس حصاره للبشر والأشياء بامتياز.
كأنهم الشعراء بذلك الفهم: «عند نصّهم يرزقون» بقاءً.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4382 - الجمعة 05 سبتمبر 2014م الموافق 11 ذي القعدة 1435هـ