في تجربة الشعر الشعبي والنبطي، ذلك الذي له امتدادات طبيعية لموروث البادية وثقافتها - محصّلات تلك البيئة بقاموسها/ لهجاتها، فنونها، وأدبها الشفاهي، وحتى طبيعة العزلة في الفضاء المفتوح فيها - أو البيئات التي تحضّرت، ولم تنفصل في الأشكال الشعرية التي تنجزها عن تلك الثقافة وذلك القاموس، ثمة إشكالية تكرّست وغدتْ "عرْفاً". عرفاً في حصْر؛ أو لنقُلْ، غلَبَة أغراض الشعر في الجانب الوجداني والعاطفي منه، ذلك لا ينفي تنوُّعاً في الأغراض الشعرية لدى عدد من التجارب الرائدة والأسماء المهمَّة في منطقة الخليج وشبه الجزيرة العربية، واليمن جزء من تلك الجغرافية.
الإشكالية أيضاً في طرَف استقبال تلك النصوص (القارئ، المستمع، والمتلقي عموماً)؛ بحيث يبدو وكأنه بُرْمِج على ذلك التكريس، حتى وهو يحضّر نفسه لتحمّل عناء حضور أمسية (جمهور هذا النوع من الأمسيات لا يتصالح إلا مع الأسماء التي تم تكريسها في المشهد الشعري، ولا يبذل ذلك العناء ولا يبديه لنصوص مهمّة وراءها أسماء لا مكان لها؛ أو لم تأخذ مكانها اللائق في ذلك المشهد)، يكون قد وضع قائمة بالنصوص التي ربما سمعها عشرات المرات؛ ضمن الغرض المشار إليه في بداية المقدمة؛ وإن امتدت الأمسية إلى ساعتين تُقرأ فيها نصوص أنجزت ربما قبل عقد من الزمن. تلك هي ثنائية التواطؤ بين الأشكال والأغراض المكرّسة والمتكررة في الشعر، لأسماء تكرّست أيضاً، أحياناً من دون أن تقدّم قيمة إبداعية ملفتة، وبين متلقٍ نمطي هو في كثير من الأحيان شبيه بمتصل لبرنامج "ما يطلبه المستمعون"! حيث كل شيء في طور الجاهز، كل ما يتبقى على الطرف الآخر هو الانتقاء!
تلك مقدّمة ربما تكون أكثر تفصيلاً، سبق أن تناولتها في أكثر من موضع قبل سنوات، تمهّد هنا لقراءة مجموعة الشاعر البحريني محمد مسعد الصيادي "بنت الأصول".
عنوان المجموعة" يوحي بالإشكال الذي ذهبت إليه المقدمة: "حصْر أو لنقل غلَبَة أغراض الشعر في الجانب الوجداني والعاطفي منه". بقراءة النص سيجد القارئ أنه على تضاد مع ما تراكم من ذلك الإشكال. شعر يذهب جهة الصِدام، لا يتصالح مع المعوجّ من أوضاع العرب الراهنة، ولا يقوم بعملية تجميل لمساحات كبرى من القبح المستشري.
"بنت الأصول" عنوان إحدى قصائد المجموعة، ضالعة في حدّتها السياسية، ونقدها اللاذع، حوار يشبه صكّ الإدانة... أحياناً يشبه الهذيان، في زمن لا يريد أولو القوّة سماع صوت سوى أصواتهم. لا يقوم بعملية إحصاء للهوَّات، وللكوارث المتراكمة في دنيا العرب، فليست تلك مهمّته، هو فقط يقوم - وللمرة الثانية والثالثة والرابعة - بتقديم كشف للذات المنهزمة، والتي لا تريد أن تتصالح مع النقيض من واقعها الذي يمكن لها أن تُوجده وتُقِيمه.
الصيادي في مجموعته الرابعة، لا ينفصل عن تعدّد أغراض الشعر لديه، وارتباطه الوثيق بالكثير مما يضج به الوقت العربي الراهن. ذلك التنوّع يستند إلى ثقافة متنوعة، لم نعهدها في كثير من الذين يتعاطون هذا النوع من الشعر. هو قارئ نهِم. كثير ممن يكتبون الشعر الشعبي، والنبطي منه خصوصاً، تنحصر ثقافتهم وتتركّز فيما ينجزون من تلك النصوص، وكفى الله المؤمنين شر القتال!
الأغراض الشعرية، وكذلك الأشكال، تذهب في تنويعة تناول القضايا المتعددة، السياسية منها خصوصاً، والإشكالات الاجتماعية التي لا يخلو منها أي إصدار من إصداراته السابقة، عبوراً؛ أو تناولاً: "سر بين اثنين"، والذي صدر العام 1996، عن مطبعة الهاشمي في البحرين، و "البلابل الحزينة"، العام 2011، وصدر عن دار "محاكاة" في سورية، و "شاهد زُور"، العام 2012، مطبعة وزارة الإعلام، البحرين.
المجموعة احتوت شهادات لتجربة الصيادي بدأها الشاعر والإعلامي البحريني حسن كمال، و "إطلالة" كتبها عمر مريحيل الجبور، من الأردن.
لم نعتدْ كتابة مقدّمات للنصوص الشعرية. ولم نعتد أكثر أن نقرأ مقدمات لمجموعة شعرية يكتبها أصحابها. الشعر لا يحتاج تقديماً. هو يقدّم صاحبه. هو يقوله؛ لكن شاء الصيادي أن تكون مقدمته أيضاً هذه المرة للجمهور، ذلك الذي تحدثنا عنه بداية المقدمة. كأنه وهو في الكتابة يذهب في التقديم من خلال قاعة وميكرفون وجمهور. ذلك إشكال يضاف إلى الإشكالات التي طرحت. لا تعني الصيادي وحده هنا، بل هو في وارد الشاهد هنا.
مقدمة الصيادي استرجاعاً للذاكرة، للسنة التي "وطأت قدمي أرض البحرين العزيزة العام 1989، حللت ضيفاً على ساحة البحرين الثقافية والشعبية منها على وجه الخصوص". الصيادي منّا، بانفتاحه على الطيف البحريني من شماله إلى جنوبه، من شرقه إلى غربه. يكتب شعراً - أكرّرها - حادّاً - ناقداً وإن لم يخْلُ من المباشرة. "العامية/ الشعبية في كثير من مساحتها مباشرة، ولا تستطيع الانفصال عن ذلك، وهو إشكال يضاف إلى القائمة! قليل من الشعر العامي/ الشعبي/ النبطي، يتمرّد على الصيغ الجاهزة، وعلى اللغة المباشرة. له رؤيته وصياغته للعالم/ عالم من ينجزون تلك المشاريع الخارجة "على الذوق العام"، وهنا تعني ألاَّ تعيد إنتاج من سبقك!
الصيادي لمن يعرفه، شاعر مشاكس، وبانفتاحه الإنساني الكبير، ونقائه - كما أعرفه - لم ينجُ من عداوات تراكمت، ربما بسبب ذلك النقاء. الذين تتعدّد وجوههم وأهواؤهم لا يأنسون لمن لا يألفهم! ربما هو بسبب وعيه السياسي الحاد، والمستفز في الوقت نفسه، لن يجد من بين أولئك من يطمئن إلى إشاراته، وأحياناً قبضه. لا يترك قضايا أمته لتكون مادة للإعلام. أو الشعر النخبوي الذي كثيراً ما يعتّم ويغمّض على كثير من تلك القضايا، في المباشر من تلك القضايا أيضاً. ليست كل مباشرة لعنة. ليس كل غموض ورمز جنة أيضاً.
الإهداء بحدّ ذاته لم نعهده في معظم الإصدارات الشعرية التي نحن بصددها. النوعية موضوع الإشكالات المتعددة؛ ما يكشف عن نفَس متنوِّع حتى في أصغر التفاصيل، والتي هي ليست صغيرة إذا ما كنا نشير إلى الإهداء هنا: "إلى روح أخي الشهيد... عبدالحكيم مسعد الصيادي الملقب بـ "البدوي"، وأخي الشهيد أحمد مسعد الصيادي، وأختي الشهيدة حاكمة مسعد الصيادي، شهداء الوطنية والقبَلية معاً...".
المجموعة تبدأ بنصوص "مفتتح استئذان"، "تعريف" و "سقراط"، وكلها نصوص لا تتجاوز "المحاورة الذاتية" تلك التي طبعت التجربة الشعرية الشعبية، ولكن هذه المرة، استناداً واتكاء على إحاطة - صغرت أم كبرت - بأسماء كبرى وفاعلة في الفكر الإنساني. يكفي المرور عليها هنا. الشعر لا يقدّم إنجازاً، إنه يذهب في إنجازه الخاص. الصيادي قارئ جيد، لذلك لن تشعر بغربة وأن تقرأ شعره، سيكون الجيد منه هناك. بتهكّمه، صراخه أيضاً، وضحكه المعجون بالمرارة كذلك.
تأخذك نصوص: "انا لا أهاب"، يعرّي فيها أصواتاً تنتمي إلى الشعر، وفي التضمين جمهور من سنخ تلك الأصوات. يقدّم الشاعر رؤيته ونظره وتناوله وهمّه الإنساني. يتتبّع في "أمة محمد" خريطة جهل، ودماً صار أرخص من الماء، والحروب التي لا يريد لها طرف ما أن تنتهي. يتهكّم في "قدر المستطاع" على منظومة الحكْم العربية التي نشهد أداءها "الرائع" و "الشجاع"، وكلها انشغال بـ "الفضيلة والشرف"!
لم ينسَ البوعزيزي، والهروب النادر في تاريخ العرب الحديث (زين العابدين بن علي)، حسني مبارك له حظ ونصيب، ذلك المتيّم بالكرسي كسواه! "قتل أهل غزة" تأخذك بلغتها المباشرة والسهلة إلى سرد ملحمة القتل، مقابل ملحمة الإصرار على البقاء والتجذّر في الأرض كشجرة الزيتون بانتمائها الفطري إلى الأرض.
في "مؤتمر مدريد" وما جرّه من إعادة إنتاج التيه العربي، بعد أن انتهى التيه اليهودي، نقرأ:
يا مؤتمرْ مدريد ما ني بليدْ
حتى أصدّقْ دعوتك للسلامْ
من كثر زيفكْ شاب راسْ الوليدْ
وقبل نطْقه اعتراه انفصام (يلاحظ زحاف في الشطر الثاني من البيت)
أقولها بالمختصرْ والمفيدْ
أنْ إنتْ كذبه صاغها العمْ سامْ
على رغم المباشرة في اللغة التي تسِم الكمَّ الأكبر من قصائد المجموعة؛ إلا أنها تعالت كثيراً، أخذتنا بعيداً عن كم من الوجدان الذي تكتظ به المجموعات الشعرية، وقد خلا معظم كتّابها من الوجدان. لا يريدون الالتفات إلى القضايا الكبرى، والموضوعات الكبرى. الوجدان من الموضوعات الكبرى من دون شك، لكنه بذلك الابتذال والتكرار لم يعد كذلك. أصبح فخاً ومصيدة لكثيرين. الجمهور من ضحايا ذلك الفخ. احترم الصيادي الارتقاء بحبره، عبر نصوص هي وجع لا يمكن الكذب عليه والتغاضي عنه!
النصوص في مجموعها تذهب في الاتجاه المعاكس للمكرّس من غرض شبه يتيم في الشعر (الوجدانيات)، تذهب في الألغام، والتعرية، ونقد للمنقلب والمتقلّب بسوء من واقع العرب اليوم. نقد لا يريد من ورائه "إلا الإصلاح". ليس ذلك الذي ورّطنا في "الخراب".
لا يمارس الصيادي نعياً هنا. إنه يقدّم، أو يذكّر بكشف أوضاع، لا كشف حساب.
أسوأ ما في المجموعة "الغلاف"، ولو لم أعرف نص الصيادي منذ زمن لما تجشّمت عناء النظر إلى المجموعة!
احسنت ايها المبدع
هذا هو الابداع والتميز ... دمت سالما اخي ومن تميز وابداع الى اخر وفقط الله تعالى لكل خير ... اخوكـ امـ ـيـ ـر