وزير هندي سابق، تولى المالية والخارجية والدفاع- ينشر المقال بالاتفاق مع «بروجيكت سنديكيت».
يبدو أن العالم واقع في قبضة الشذوذ الجيوسياسي. فالآن لا يملك أي زعيم أو مجموعة من الزعماء أو مؤسسة، القدر الكافي من السلطة لاستعادة أي مظهر من مظاهر النظام الدولي والسلام. والواقع أن ضياع الدفة العالمية على هذا النحو يذكّر كثيرين بأوروبا عندما سارت نائمةً إلى الكارثة قبل قرن من الزمان.
لاشك أن الأمر لا يخلو من بعض أوجه التشابه المذهلة بين الأحداث الحالية وذلك الوقت المشئوم. فكان إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية (الرحلة رقم 17) فوق شرق أوكرانيا ترديداً لصدى اغتيال الأرشيدوق فرانتس فرديناند بكل ما فيه من تهور، ناهيك عن فشل الحكومات والمواطنين في إدراك حقيقة مفادها أن التنافس الدبلوماسي من الممكن أن يفضي سريعاً إلى العنف.
الواقع أنه حتى بعد ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتحريضها للحركات الانفصالية في شرق أوكرانيا، لم تر شركات الطيران ضرورةً لتحويل مسار رحلاتها الجوية. وقد عكس هذا استجابة المجتمع الدولي -أو تقاعسه عن الاستجابة- للتطورات التي حملت تهديداً واضحاً. ومع مشاركة القوات الروسية بشكل مباشر الآن في الاضطرابات الجارية في شرق أوكرانيا، فإن عود الثقاب الذي أشعله الرئيس فلاديمير بوتن قد يتحول إلى حريق هائل.
قبل أن يكتمل انحلال الاتحاد السوفياتي بفترة وجيزة، سألت زبيغينيو بريجنسكي، الذي شغل منصب مستشار الأمن القومي في عهد الرئيس الأميركي جيمي كارتر: ما الذي ينتظر العالم من روسيا ما بعد الاتحاد السوفياتي؟ فأجابني قائلاً: إن انحلال الاتحاد السوفياتي من شأنه أن يجلب عصراً جديداً من السلام العالمي إذا -وفقط إذا- ظلت روسيا داخل حدودها الجغرافية.
من الواضح أن بوتن لا يجد أي مصلحة في سلوك هذا المسار، فهو يقود الآن أحدث حملات روسيا بعد حربها مع جورجيا في العام 2008 لاستعادة جزء من إمبراطوريتها المفقودة. ويبدو أن «التاريخ» الذي افترض فرانسيس فوكوياما أنه انتهى بانهيار الشيوعية حصل على فرصة ثانية. ففي رأسمالية بوتن الاستبدادية -الأشبه بتلك في الصين- حصلت الديمقراطية الليبرالية على الطريقة الغربية، التي كان من المفترض أن تحكم ظافرة، على منافس جديد.
من منظور بوتن، يُعَد تركيز روسيا على أوكرانيا منطقياً. ذلك أن ولاء أوكرانيا يشكل ضرورة أساسية لدعم جهود بوتن الرامية إلى إنشاء اتحاده الأوراسي بقيادة روسيا كبديل للاتحاد الأوروبي. وعلاوة على ذلك، كان قادة روسيا ينظرون دائماً إلى أوكرانيا باعتبارها منطقة أمنية عازلة مهمة؛ وهي أيضاً طريق لعبور صادرات الطاقة التي يعتمد عليها اقتصاد روسيا.
هذه ليست المرة الأولى التي يساور فيها القلق بوتن بشأن تحول أوكرانيا تجاه الغرب. فأثناء الثورة البرتقالية في أوكرانيا العام 2004، تصوّر بوتن أن وكالة المخابرات المركزية الأميركية كانت وراء الاحتجاجات الواسعة النطاق التي عرقلت محاولات فيكتور يانوكوفيتش سرقة الانتخابات الرئاسية. ولكن حجم الاحتجاجات، جنباً إلى جنب مع دعم الغرب للمحتجين، أرغم بوتن على الامتناع عن التدخل بشكل مباشر. وبدلاً من إطلاق حملة عسكرية -علنية أو غير ذلك- استخدم صادرات الطاقة والحوافز المالية لإبقاء الحكومة الأوكرانية تحت السيطرة.
ولكن هذه المرة، اختار بوتن التدخل العسكري، وهو القرار الذي أثبت كونه مدمّراً بالنسبة لروسيا. فقد تسببت العقوبات الغربية في هروب رأس المال على نطاق غير مسبوق منذ السنوات المبكرة من انتقال البلاد بعد الشيوعية.
ومن المرجح، علاوة على ذلك، أن يؤدي قرار البنك المركزي بعدم حماية الروبل الذي سجل هبوطاً حاداً، جنباً إلى جنب مع الحظر الذي فرضه بوتن على الواردات الغذائية من الغرب، إلى انحدار حاد في مستويات المعيشة وشعور متزايد بالعزلة العالمية. ومن المرجح نتيجة لهذا أن يضعف الدعم الشعبي الذي يحظى به بوتن.
الآن، أصبح القتال في شرق أوكرانيا أشبه بحرب عصابات خارجة على القانون لا يحكمها ضابط ولا رابط. وقد امتنع الاتحاد الأوروبي لفترة طويلة للغاية عن اتخاذ إجراءات حاسمة قد تقوّض المصالح الاقتصادية لأعضاء مؤثرين مثل فرنسا وألمانيا والمملكة المتحدة. ومباشرة قبل أن يشدّد الاتحاد الأوروبي عقوباته أخيراً في نهاية يوليو/تموز، لاحظ عضو البرلمان الأوروبي من هولندا ماريتجي شاك أن كل الدول الأوروبية تقريباً «سلمت السلطة طواعية للسيد بوتن، الأمر الذي سمح له بتأليب البلدان ضد بعضها البعض». وبالتالي، ففي أعقاب إسقاط طائرة الخطوط الجوية الماليزية، أصبح الرئيس الأميركي باراك أوباما، على حد تعبير جيوف داير، «عالقاً بين استراتيجية تقوم على محاولة التحرك بالتناغم مع أوروبا وبين التذمر الغاضب المطالب برد حاسم من قِبَل الولايات المتحدة».
وإذا كانت استجابة الغرب للأزمة في أوكرانيا ضعيفة ومضللة، فإن ردة فعل القوى الناشئة على مستوى العالم كانت العمى الطوعي. فالصين على سبيل المثال، أقّرت فعلياً ضم روسيا لشبه جزيرة القرم وتدخلها في شرق أوكرانيا. وكان من الواجب أن يطلق هذا أجراس الإنذار في الهند، نظراً لمطالبة الصين بالسيادة على مساحات شاسعة من الأراضي الواقعة تحت السيادة الهندية، ولكن لا يوجد حتى الآن ما يشير إلى أن أي شخص قد انتبه إلى هذا.
إذا نظرنا إلى تاريخ الهند، فسوف يتبين لنا أن هذا ليس صادماً تماماً. فعندما غزا الاتحاد السوفياتي أفغانستان في العام 1979، لم تعرب الهند عن رفضها الصريح. بل إن الهند امتنعت مراراً وتكراراً عن التصويت على قرارات الأمم المتحدة التي حثت على انسحاب القوات السوفييتية، وهي القرارات التي حظيت بتأييد ساحق بين دول عدم الانحياز الأخرى.
وبحلول أواخر ثمانينيات القرن العشرين، عندما سعى الاتحاد السوفياتي إلى مخرج مشرف وآمن من أفغانستان، تخلّت الهند عن الموقف الضروري للمساعدة. وبمجرد انسحاب السوفيات، لم يعد بوسع الهند أن تلعب أي دور حقيقي في تشكيل مستقبل أفغانستان.
عندما تهدّد المخاطر أسس النظام العالمي، فيتعين على القوى العظمى أن تمتنع عن تبني سياسة التقاعس والصمت. ومن جانبها، يتعين على القوى الناشئة، مثل الهند والبرازيل وجنوب أفريقيا وتركيا على أقل تقدير، أن تدافع صراحةً وبشكل قاطع عن القواعد الأساسية للنظام الدولي الذي مكّنها من تحقيق النمو والازدهار. وإلا فإنها قد تجد نفسها عندما يفيق زعماء العالم ويتحركون أخيراً وقد انزلقت إلى كارثة عالمية أخرى.
العدد 4377 - الأحد 31 أغسطس 2014م الموافق 06 ذي القعدة 1435هـ
أوكرانيا
تشكل أوكرانيا جزء مهم من الأمن القومي الروسي كما أن ابتلاعها من قبل "جماعة" الناتو يعني السيطرة على معبر مهم من خطوط أمداد ات الطاقة لا أعرف على أي منطق يستند الكاتب سينغ في تفسيره المعاكس وبالطريقة الهندية