مرّت تسع سنوات أو أكثر على صدور كتاب «الموسيقى في البحرين... الموسيقى التقليدية في الخليج العربي»، للموسيقي والباحث الأركيولوجي الدنماركي بول روفسنغ أولسن، الذي تولت ترجمته فاطمة الحلواجي، وراجعه فنياً، أحمد الجميري، فيما تولى المراجعة العامة حسين المحروس، وصدر ضمن مشروع كتاب «البحرين الثقافية».
الكتاب تصدّرته مقدمة مهمة للأنثروبولوجي والأكاديمي عبدالله يتيم، ولم تخصص للكتاب بل سبق وأن نشرت كمراجعة نقدية للنسخة الإنجليزية من الكتاب، ونشرت في «مجلة العلوم الإنسانية».
الدنماركي أولسن، الذي أتم دراسته الجامعية الأولى في العام 1946متخصصاً في القانون بجامعة كوبنهاغن، بجانب دراسته للموسيقى الغربية الكلاسيكية، أتم دراسته الموسيقية في باريس لمدة عام في الفترة ما بين 1948-1949.
البعثات الدنماركية المختصة بالآثار لها حضور متميز. جلّها كان اشتغالاً أركيولوجياً. أولسن ذهب إلى دراسة موسيقى المنطقة، باحثاً عن فن الأصوات والآلات التي رافقتها. ليس بمعزل عن ذلك التلاحم بين الوسائط (الآلات وما يرافقها من غناء)، والحال التي تنتاب صاحبها. الجسد له إشاراته. الروح هي الأخرى في حال أخرى غير التي سبقت الممارسة.
يصف الأكاديمي عبدالله يتيم كتاب أولسن بالقول: «ربما من الأنسب أن نصف كتاب بول أولسن (الموسيقى في البحرين)، بأنه نوع من السفر الأنثروبولوجي، عبر الموسيقى التقليدية لاكتشاف الذات بمقارنتها بالآخر غير الأوروبي، ذلك أن أولسن قد بدأ حياته ناقداً موسيقياً ومؤلفاً موسيقياً ودارساً لآلة البيانو ومؤلفاً وعازفاً لها. إلا أن الاهتمام والشغف بالموسيقى الكلاسيكية الغربية، على رغم أن أولسن أبدع فيه جيداً، يكمن وراءه عدد هائل من الأعمال الموسيقية، بلغ عددها نحو خمسة وثمانين عملاً».
سفر... حضور أولسن في المنطقة وتحديداً البحرين، كان لازماً وضرورياً لتثبيت منهجية تتيح له أن يكون على تماس مع مجتمعاتها، وهو تماماً ما أشار إليه يتيم في مقالته/ المقدمة للكتاب، في صيغة أخرى بالقول: «لم تكن أمام أولسن من منهجية أخرى، غير الاقتراب من هذه المجتمعات والثقافات ومعايشة حياتها اليومية، ما يمكنه من استيعاب أفضل لموضوعه؛ أي الموسيقى والغناء».
مكّنت تلك المنهجية أولسن من القيام بأولى مهامه: التدوين الميداني للموسيقى والغناء الشعبي، ليحقق بذلك أولى وظائف البحث العلمي: التصنيف.
لذلك التصنيف مداخل مهمة للتعرف على الأنماط الموسيقية والغنائية، وتقف على ذلك مقالة/ مقدمة يتيم بالقول: «وهكذا تناول، أي عبر التصنيف، جميع الآلات الموسيقية المستخدمة بالوصف الدقيق والموضوعي لها، مُظهراً خصائصها الصوتية الموسيقية ومقارنتها ما أمكن مع نظائرها في الثقافة والمجتمعات العربية الأخرى المجاورة لها».
سرد الذاكرة الشعبية
أولسن في زيارته البحثية إلى البحرين، ولتعزيز دراسته لفن الصوت، التقى الفنانيْن محمد زويِّد وسلطان حمد، وأفرد لذلك فصلاً في كتابه أسماه «موسيقى العود»، مستخدماً نماذج من التسجيلات من «ِلفْجِري» و «الصوت».
ذهب في البحث عن أصول الفن الأول «لِفْجِري»، سارداً ما تكتنز به الذاكرة الشعبية من أساطير وحكايات، مرة إلى الجن أو التأثر بألحان وفنون الغناء في شبه القارة الهندية، بحكم التواصل وطبيعة الهجرات في تلك المرحلة المتقدمة من تاريخ البلاد.
انتقل أولسن من الفنين السابقين إلى غناء وموسيقى العرْضة. الأوَّلان يعكسان البيئة والواقع الحضري، ومن بينها البيئة البحرية؛ فيما تعكس العرضة بيئة البادية العربية.
يذكر يتيم في مقالته/ المقدمة أنه «من المُصادفات التاريخية أن يشهد بول أولسن وزميله كاجيل فالك احتفالات العرضة في قصر الرفاع بالبحرين في 16 ديسمبر/ كانون الأول 1962، أي بمناسبة مرور عام على تولي المغفور له الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة أمير البحرين خلفاً للمغفور له الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة. وهي مناسبة احتفالية مكنت أولسن من توثيق الاحتفال، مسلطاً الضوء على الموسيقى والغناء والرقص والشعر المُغنّى وغيرها من الطقوس المرافقة للعرضة في البحرين. وكان أمامه وزميله فالك، الفرصة لعقد المقارنة بينها وبين العرضة في الإمارات، أي المعروفة هناك بـ»العيّالة»؛ إذ أقام كل من حاكم إمارة أبوظبي الشيخ شخبوط بن سلطان آل نهيان، ووالي مدينة أبوظبي (الصحيح ممثل الحاكم في المنطقة الشرقية في مدينة العين التي تبعد نحو 120 كيلومتراً عن الإمارة)، الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، والمغفور له حاكم إمارة الشارقة الشيخ صقر بن سلطان القاسمي، آنذاك احتفالاً بزيارة أولسن وكاجيل للإمارات بإقامة العيّالة في الساحة العامة أمام قصري حاكم أبوظبي وحاكم الشارقة».
العلاقة مع غلوب
ابتدأت المقدمة الثانية للكتاب التي وضعها متحف موسغارد قبل عامين من إصدار الكتاب في ترجمته العربية، وتحديداً في 22 أغسطس/ آب 2002، بـ «المشافهة» التي اعتبرت الطريقة الوحيدة في اتباع حفظ الإرث الموسيقي البحريني وتناقله من جيل إلى جيل. واقعاً، ظلت المشافهة هي الطريقة لحفظ مجمل الإرث في البيئات التي لم تتوافر على فرص وواقع تعليم ووسائط معرفة متقدمة. المنطقة عموماً كانت تتكئ على الطريقة تلك.
تحوي المقدمة نبذة تعريفية لتعليم وبدايات أولسن، ويحتل اهتمامه بالموسيقى دراسة وتأليفاً، وفي فترة أخرى تدريساً لها، مساحة لا بأس بها من المقدمة؛ وخصوصاً اهتمامه وعنايته بالفلكلور الدنماركي من خلال السجلات، وتأسيسه وإدارته لدائرة الموسيقى الأوروبية الدخيلة Extra-European Music.
وتشير المقدمة إلى العلاقة التي ربطت أولسن بعالم الآثار ب.ف.غلوب، في العمل الميداني، معرّجة على تتبّع خلفية دراسات أولسن الإثنوموسيقية (المتعلقة بالأصول الموسيقية)، من خلال ما قاله العام 1958: «بينما توجد أسطوانات جيدة للموسيقى العربية الكلاسيكية، بالإضافة إلى تسجيلات للموسيقى الشعبية الخاصة بالدول المتوسطية (مثل سورية والمغرب)، فإنه يندر وجود تسجيلات لموسيقى الخليج العربي الشعبية من أجل الدراسة العلمية».
تتطرق المقدمة إلى جانب من الزيارات التي قام بها أولسن بدءاً من عمله في جزيرة فيلكا الكويتية في مارس/ آذار 1958، لمدة ستة أسابيع، ولمدة أسبوعين في البحرين، ليعود إلى المنطقة في الفترة ما بين نوفمبر/ تشرين الثاني 1962 ويناير/ كانون الثاني 1963، حيث بقي في البحرين لمدة سبعة أسابيع، وفي العام 1972 زارها بدعوة من وزارة الإعلام لأسابيع ثلاثة.
60 ساعة تسجيل واستعراض الآلات
سجّل أولسن نحو 130 شريطاً، منها 60 ساعة سجّلها في البحرين.
بعد النبذة الجغرافية والتاريخية للبحرين، يتطرق أولسن إلى التغيرات التي شهدتها البحرين؛ الأمر الذي انعكس على الحياة الموسيقية، ذلك في الفصل الذي خصصه لـ «الآلات الموسيقية»، مستهلاً بالإشارة إلى ندرة بعض الآلات الهوائية الشائعة كالفلوت الكلاسيكي أو الناي، وذلك لأنه لم يصل إلى البحرين إلا مؤخراً. يمر على الشائع من الآلات هنا، منها المزمار أحادي وثنائي القصبة، ومزامير القربة وتعرف بـ»الهبّان»، مع تبيان لدور كل منها، وكذلك «الصرناي»، وهو المزمار البحريني المزدوج، ولد امتداد في العالم الإسلامي، وتعتمد تقنية الصرناي ويسمى «الجفطي» أيضاً على «تقنية العزف المتواصل (غير المنقطع) حيث يتنفس الموسيقي من أنفه، بينما ينفخ في الأنبوب، وهي تقنية تعرف بالتنفس الدوري (Circular breathing)».
وفيما يتعلق بالآلات الوترية، يذكر أولسن، العود، فخر الموسيقى الكلاسيكية في العالم العربي بأكمله، وفي تركيا أيضاً، مشيراً إلى أن العازفين البحرينيين استخدموا «منذ القديم ريشة النسر للضرب على أوتار العود، ولكن مؤخراً، استبدلت بأداة أخرى مصنوعة على الأغلب من مادة البلاستيك».
يمر على الكمان والدف (الدربوكة)، والطار، نوع آخر من الطبول، وأصغرها ثنائي الجلد «المِرْواس».
العُود ومحمد بن فارس
في الفصل الثاني من الكتاب، ****لا يُرجع أولسن تاريخ العود إلى أي فترة زمنية من حيث نشأته، لكنها تظل فترة زمنية ضاربة في التاريخ، يميل - كغيره من الباحثين - فيما يتعلق بتاريخ نشأته ووجود في منطقة الخليج****. ويرجع أولسن عدم وقوف الباحثين على تاريخ محدد وعدم الجزم بوجوده في القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، إلى سبب بسيط: «إن الموقف الرسمي من العزف على الموسيقى كان وهابيّ الإيحاء (يخضع لمفاهيم واعتقادات الحركة الوهابية وقتها)؛ أي أنه كان سلبياً، وعلى رغم ذلك، كان العود يُعزف في كثير من الدُّور، حيث كانت تتحقق بعض الخصوصية نظراً لغياب النوافذ، ولأن الكثير من الدُّور كانت غائرة في الأرض حيث كانت أشبه بالأقبية».
يحضر أشهر «العوَّادين» - من يعزفون على آلة العُود - من دون منازع في مملكة البحرين، وهو محمد بن فارس، مارّاً على سيرته؛ إذ ولد في العقد الأخير من القرن التاسع عشر، وتوفي في العام 1948، وصقل السفر والتنقل في عدد من البلدان، موهبته وفتح له آفاقاً، في الهند وسورية والعراق، وعلى الأرجح عمان في الفترة مابين 1932و1938. كان ذلك بعد أن صدر الأمر بإغلاق جميع الدُّور التي يتم فيها الاجتماع لممارسة الموسيقى وإحياء الجلسات الفنية وقتها. كما يحضر ضاحي بن وْليد الذي عاش معه في الفترة نفسها تقريباً.
التقسيمات البحرينية وظلم المقارنة
في الفصل نفسه، يتناول أولسن التقسيم البحريني للعود، مشيراً إلى أنه يمكن قولبته «على النموذج المصري، وقد يخلو من التناغمات تماماً وذلك بسبب قصره. وحال تواجدها تكون عادة بسيطة ولا تسمع إلا من خلال المقطع الثاني من التقسيم»، مُوْرداً هنا الدخول في حال من المقارنات غير المتكافئة بينها وبين التقسيمات المصرية، «حتى لو اعتبرت التقسيمات البحرينية مستوحاة من عظماء الموسيقيين الكلاسيكيين من أقطار العالم العربي، ليس من العدل مقارنة النصوص البحرينية في ضوء النتاجات العراقية أو السورية أو المصرية».
تاريخ الصوت... عبدالله الفرج
في تتبّع لتاريخ الصوت في البحرين، يربط جزءاً منه بعبدالله محمد الفرج، وهو تاجر لؤلؤ كويتي عاش في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واستقر في الهند لبعض الوقت حين خسر تجارته وكل أمواله، وهناك ألّف أغاني أطلق عليها «صوت» ما العلاقة؟ يوردها أولسن بشكل غير مباشر من خلال محمد بن فارس الذي أبدى «اهتماماً بالغاً بفن عبدالله الفرج».
يخصص أولسن فصلاً لفن العرضة، أو رقصة الحرب، بالطبل والطار والطوس، وتعني «إظهار» أو «إثبات»، وكذلك الرقصات الاحتفالية، والغناء والغوص، ولِفْجري، ويفصّل في الأخير، والوظيفة المحددة والمعروفة في حياة المرتبطين بصيد اللؤلؤ، مشيراً إلى أن لِفْجري قد حصر كل الألوان الغنائية في الثمانية ألوان التي تنتمي إليه: السنكيني، البحري، العدساني، لمْخولفي، الحدّادي، الحساوي، الزُّميّة والدان «غير أن النوعين الأخيرين ليسا مستقلين تماماً».
وفيما يتعلق بالنوع الأول من الغناء، السنكيني فهو حالة خاصة، «النوع الوحيد من لِفْجري الذي لم يغنَّ على متن مركب، بل كان يغنى على الشاطئ، كما أنه لا يتطلب إلا الآلات القليلة».
تناول أولسن في الكتاب نفسه «الموسيقى إفريقية الأصول»، وفيه يستهله بالقول: «إن جزءاً لا يمكن إنكاره من الشعب البحريني من أصول إفريقية»، ومثل بقية ما يتم توارثه بين تلك المجموعة هي الفنون، وهو ما حدث؛ إذ احتفظ أولئك «ببعض تقاليد أجدادهم الموسيقية التي استطاعت الاندماج بشكل أو بآخر في النمط الثقافي المحلي».
في الكتاب إضاءة لـ»الأغاني الدينية» و»أغاني النساء».
عناء الدرس
جزء كبير من فنون المنطقة ما كان لها أن تحفظ وتدرس ويتم تناولها ضمن سياقات منهجية تبحث في أصولها وامتداداتها وقيمتها ضمن قائمة من الموروث، لولا جهود أولئك الباحثين الذين وفدوا إلى المنطقة في فترة لم يستوِ فيه عودها، ولم تتمخّض عن تحولات وثروات ظاهرة تبعث على الإغراء والتهافت. كان الهدف من وراء كل ذلك العناء: الدرس بالطبع. الدرس بالذهاب إلى مقاربات ومقارنات تضعه أمام المنجز مما لديهم، هناك في استوائه ونضوجه. ولم يتم التعالي على بدائية تلك الفنون على اختلاف أشكالها، في خضم ذلك الدرس. تم التعاطي معها بوصفها أشكالاً تعبيرية ضمن سياقاتها وضمن بيئاتها، وضمن المتوافر لها أيضاً من مقومات تدفعها إلى التطور أو المراوحة والتكرار والحفاظ على وضعياتها المتوارثة.
حفظ ذلك الدرس اليوم للمنطقة التي تم مسحها بالمنهجيات، إعادة النظر والدرس من جديد والبناء على ما تم تحقيقه. مثل ذلك الاكتفاء لا يحقق أثراً. المنطقة لا تعدم المتخصصين القادرين على التقاط ما تم تحقيقه وإعادة النظر في تناوله وتعميقه في الوقت نفسه، فالدراية للمنتمين إلى هذا الجزء من العالم، ومنهجة تلك الدراية ستعطي لتلك التناولات أهميتها وصدقيتها وأثرها حين تقدم إلى العالم بمنهجية عالية.
العدد 4376 - السبت 30 أغسطس 2014م الموافق 05 ذي القعدة 1435هـ