«أنت لا تُحاضر في الناس، ولكنك تُوصلهم إلى السؤال، أن تجعلهم يتفكّرون في أنفسهم، وليس الاتِباع. أنا لا أريد أتباعاً». جزء من ردود عالم اللسانيات الأميركي الشهير نعوم تشومسكي، في لقاء قديم أجراه نايجل فارندال، ونشر في صحيفة «التلغراف» البريطانية بتاريخ 6 يوليو/ تموز 2010.
تظل استشرافات تشومسكي، حاضرة وذات مرجعية لا غنى عنها حتى في دوائر القرار التي ترى فيه مواطناً أميركياً عجوزاً ضالعاً في العقوق، بنقده المكشوف على الممارسة اليومية لبلاده، بسياسات جعلتها الدولة الوحيدة على وجه الأرض التي تهدد الاستقرار العالمي، ولم يتردد في وصفها بـ «الدولة الإرهابية الرائدة» اليوم.
قبل استعادة جزء من اللقاء ربما تكون العودة إلى كتابه « Illusions of the Middle East» (أوهام الشرق الأوسط)، ملحّة للتعميق وأحياناً التأصيل لعدد من المفاهيم والموضوعات المتعلقة بحقوق الإنسان، والسياسة الأميركية برجالاتها، وقراءته لتاريخ ومسارات المنطقة، والمهم، نفيه للمعايير المزدوجة. كيف؟
تناول تشومسكي في كتابه المذكور مصطلح «حقوق الإنسان» في السياسة الأميركية وحدّده بالقول: «إنه التزام أسطوري كاذب، تتحدد تلك الحقوق على أساس الإسهامات في حفظ النظام».
يتناول حقوق الحكومات العربية باعتبارها تسيطر على الشعوب، وفي ذلك ضمانة لتدفق الثروة إلى الغرب. بريطانيا اعتبرها «الكلب التابع إلى أميركا»، بتفصيله في الطرق يصل إلى قناعة مؤدّاها: «الولايات المتحدة لا تعبّر عن معايير مزدوجة كما هو شائع، ولكنها تمتلك معياراً وحيداً هو معيار المصالح».
تشومسكي يرى أن أوباما يتوجّه إلى الجميع بالكلام من أجل إنقاذ سمعة بلاده وليس بالفعل، فليس هناك تغيير سياسي حقيقي. المقارنة هنا بينه وبين الأداء الكارثي لسلفه جورج بوش الابن.
نايجل فارندال، في المقابلة المطوّلة المذكورة، تناول في تقديمه لها، رؤى نعوم تشومسكي «الراديكالية» تلك المتعلقة باللغة، والتي يرى أنها حققت له شهرة عالمية. ذو الحادية والثمانين (العام 2010)، الخامسة والثمانين عاماً (2014)، بحث موضوعات عدّة، من بينها تهديدات القتل، من حيث هي حالة/ ظاهرة بمنأى عن شخْصنتها، ومن حيث ارتباطها به (لم تتوقف. يتلقاها من أطراف وباتت سخيفة وشبه عادية)، بحث أيضاً موضوع شبكة الإنترنت، ولماذا يعتقد أن أوباما تم تسويقه وكأنه نوع من معجون الأسنان. موضوعات تبدو متنافرة، لكن تشومسكي ببراعته يخلف جسور تلاقٍ لها.
«الوسط» ستركّز على هوامش وتعليقات لفارندال لأهميتها، من جهة، ورؤى لتشومسكي قمنا بانتخابها، تجنباً للجانب السياسي المحض من المقابلة، من جهة أخرى، في تناوله لموضوعات اللغة واكتسابها، والفطرية التي تتمتع بها هياكل معظم اللغات المتقاربة، والخطابة وغيرها.
في منهل بأحد الفنادق يبدو شبه فارغ من الناس تقريباً، هو قاب قوسين أو أدنى من المتحف البريطاني، وبينما كان يحتسي الشاي، ويتحدث بطريقة تشبه الرتابة الصامتة، رحت أتساءل عمّا إذا كان يعتدّ بأي وجود لي، وسرعان ما استنتجت أنه لا يعتبرني موجوداً؛ إنه يلقي بالنكات؛ وبالمناسبة، نعوم تشومسكي لا يمتلك روح الدعابة في الواقع.
توصّلت ساشا بارون كوهين إلى النتيجة نفسها عندما، عندما سألت، تشومسكي: «كم من الكلمات تعرف؟ البعض منها! لم يُبْدِ تشومسكي أي ابتسامة، وقال لمحاوره ببساطة، كم هو العدد المتوسط للكلمات التي يعرفها الغربي؟ بعد ذلك، وكما طُلب منه، كشفَ عن بعض ما يعرفه منها!
سؤال كوهين قد يكون مُسليّاً ولكنه لم يكن عشوائياً البتة. نال تشومسكي الشهرة العالمية في ستينيات القرن الماضي، ومن المرجّح أنه نالها بسبب معرفته بمجال اللغويات، تلك التي جعلته معروفاً في الأوساط الأكاديمية العالمية، وعدد من الدوائر المهمة. إنه بدرجة أو أخرى أسّس الانضباط في هذا المجال الشائك والمعقد، والذي أصبح ملازماً له مثلما لازم التحليل النفسي، سيجموند فرويد، وعلم الفيزياء، آينشتاين.
في التناقض السائد، من الجانب السلوكي، يتم الكشف عن أن اللغة تمَّ تعلُّمها (لم تأتِ هكذا محض مصادفة). وجادل تشومسكي، بأن العقل البشريّ تم ربطه في الواقع بالفكر النحوي (اشتغالات تشومسكي على النحو التوليدي والنحو التحويلي، كانت البداية لتأسيسه الانضباط في هذا المجال، بالإشارة إلى التقديم الذي بدأ به فارندال المقابلة). طريقة اكتساب الأطفال لغتهم الأم بنجاح في وقت قصير جداً أوْحت له، بأن هياكل اللغة كانت بطبْعها فطرية، بدلاً من المراحل التي تمر بها عملية الاكتساب، وأن جميع اللغات المشتركة (المتقاربة) لها قواعد أساسية مشتركة أيضاً. ذلك ما يصفه بـ «النحو العالمي». وقال: «لكن لا تقلق، فلن أخضعك لاختبار في وقت لاحق، فعلم اللغة لا علاقة له بهذا الحديث».
وعلى رغم ذلك ربما عليّ أن أضيف بالقول، إن النقاش بشأن اللغة أحرز قفزات كبرى منذ نظريات تشومسكي التي اشتغل عليها وقعّد لها في ستينيات القرن الماضي. ذلك بالطبع انعكس على انتقالات تحققت له أيضاً. في واقع الأمر هو معروف بشكل أوسع وأفضل هذه الأيام باعتباره ناشطاً سياسياً.
كنتُ على نحو ما أتصوّر أن رجلاً بسطوته البلاغية وسمعته والشهرة الضاربة التي اكتسبها، سيكون له صوت مدوٍّ (تماماً كالأفكار التي يطلع بها على العالم)، أو على الأقل، امتلاكه بعض المهارات الأساسية في الخطابة. حتى الآن هو كذلك هنا، وبالكاد يكون على مبعدة 4 أقدام منّي، وأنا أُجهَد لسماع ما يقوله. ولا علاقة لذلك بسنّه ووضعه الصحي، فهو مرهف، ويحرص على أن يكون في مظهر ملائم، بهيئته التي لا تُخفي أنه محدودب نوعاً ما، مع شيب شعره المجعّد، وعلى نحو ما، يبدو خجولاً، ويميل بين لحظة وأخرى بنظرة جانبية نحوك عبر نظارات مدلّاة بخيط يتيح له انسجاماً أكثر كلما رأى الحاجة إلى انتزاعها أو تثبيتها. يبدو من صوته أنه متشائم، وخصوصاً في مخارج بعض الكلمات التي تبدأ من الجزء الخلفي من الحلق.
عندما وضعت جهاز التسجيل على الطاولة أمامه قال بصوت مبحوح: «أنت لن تكون قادراً على سماعي. لا أحد يستطيع. أجريت مرة مقابلة لمدّة ثلاث ساعات مع راديو أكسفورد، ليتم إخباري بعدها بأن الميكرفون لم يلتقط ما قلته».
هو هنا، في العاصمة البريطانية (لندن)، لإلقاء محاضرة في كلية لندن للاقتصاد. وقال إنه لايزال أستاذاً فخرياً في معهد ماساشوسيتس للتكنولوجيا ذي الشهرة العالمية؛ إذ درّس لمدة 55 عاماً. مشيراً إلى أنه لايزال يجري مقابلات بانتظام في الإذاعة والتلفزيون، ومازال يلقي محاضراته للجمهور، في الوقت الذي يستمر فيه بتأليف الكتب المثيرة للجدل (في هذه الأيام تتناول كتبه الشئون العالمية). ربما من خلال المدى الذي يمكن لصوته أن يبلغه، يبدو أنه ضمن مستوى يتيح فقط الاستماع إليه. (للصوت شروط ومستويات تبعاً للأمكنة لديه)، ويستخدمه في مستوى أكثر ارتفاعاً في القاعات المزدحمة التي تخضع للصمت عندما يبدأ حديثه.
الحوار لابد أن يكون متنوعاً مع تشومسكي. يبدو أنه يمارس القفز من موضوع إلى آخر، ليعود إلى النقطة التي بدأ منها، يبدو ذلك مصدر إرباك وتشويش بعض الشيء.
قال لي: «أنا لست باراك أوباما». «ليست لديّ مهارات في الخطابة. ولكنني لن استخدمها إذا كان عليّ فعل ذلك. أنا لا أرغب في الاستماع إلى الخطابات. حتى بالنسبة إلى الناس الذين أنا معجب بهمٍ، مثل مارتن لوثر كينغ، فهو أيضاً يدفعني إلى الدخول في حال انفصال عن الإصغاء إليه. لا أعتقد أن هذا هو السبيل للوصول إلى الناس. إذا كنت تعطي مقرراً تعليمياً في الدراسات العليا فلا تحاول إقناع الطلاب بأهمية مَلَكة الخطابة، حاول أن تدخل في حال تحدٍّ معهم، وادفعهم كي يسألوك.
يرى تشومسكي سبب بقائه في معهد ماساشوسيتس لأكثر من 5 عقود - ولايزال – في توافر ثقافة فكرية هناك، في تجدّد دائم. «أنت لا تحاضر في الناس، ولكنك تُوصلهم إلى السؤال، أن تجعلهم يتفكّرون في أنفسهم، وليس الإتباع. أنا لا أريد أتباعاً».
لتحكم على تشومسكي من خلال أرقام مبيعات كتبه (باع كتيّبه حول مدلول 9 سبتمبر/ أيلول، ما يزيد على نصف مليون نسخة)، والذين يتابعونه في ازدياد. في الأرضية التي تم إعدادها لشن الحرب على العراق، ظهر جزء بسيط من الجرافيتي (الكتابة على الجدران) في أكثر من حرم جامعي في أنحاء مختلفة من العالم نصه: «اقرؤوا تشومسكي». إنه بطل مبجّل من قبل الحركة المناهضة للعولمة». وأطلق عليه عرّاب الجرافيتي الأميركي بونو اسم «ألفيس الأكاديمية» و»متمرّد من دون توقف».
هو نفسه الذي لم يتردّد وفي أكثر من مُؤلَف له، وتصريح ومحاضرات أخذته إلى أكبر وأشهر الجامعات الأميركية والعالمية، في القول، بأنه «علينا أن ندرك بأن مناطق كثيرة في العالم، ظلت تعتبر الولايات المتحدة الأميركية دولة إرهابية رائدة، ولسبب وجيه كما يقول. الأكثر إثارة، أنه جادل بأن كل رئيس أميركي بعد الحرب كان يجب أن يشنق بتهمة ارتكاب جرائم حرب وفقاً لقوانين نورمبرغ.
العدد 4375 - الجمعة 29 أغسطس 2014م الموافق 04 ذي القعدة 1435هـ