العدد 4375 - الجمعة 29 أغسطس 2014م الموافق 04 ذي القعدة 1435هـ

الحلّة وكرانة... هلال دلمون الخصيب

في قرابة العام 2300 ق. م. بدأ تأسيس أول مدينة دلمونية في موقع قلعة البحرين، والتي تطورت مع الزمن لتضم قصراً للملك الدلموني بالإضافة لعدد من المكاتب الإدارية، وبيوت السكن. وعندما كانت حضارة دلمون في أوج قوتها (2000 – 1800 ق. م.)، أصبحت المناطق المحيطة بالمدينة الدلمونية، والتي تتكون بصورة أساسية من المناطق المعروفة حالياً باسم كرانة وحلة العبدالصالح والقلعة وغيرها، أصبحت تكون منطقة زراعية كثيفة، تشكل شبه دائرة، أو هلال، يحيط بالمدينة.

وكانت هذه الحدائق مليئة بالنخيل وشتى الأشجار المختلفة، وقد أصبح التمر في تلك الفترة من السلع المهمة والذي كان ينتج بغزارة في هذه المنطقة (Larsen 1986). وقد انتشرت، بين تلك الحدائق، جماعات من الشعب الدلموني الذين كانوا يبنون بيوتهم من سعف النخيل ويتعيشون بشكل أساسي من الزراعة؛ حيث إن نتائج التنقيب الآثاري تشير لوجود ما يدل على منطقة استيطان في كرانة تعود للحقبة الدلمونية، ولكن لم يعثر في هذه المنطقة على آثار تدل على بناء منازل طينية فيها (Velde 1998).

حتى بعد أن توقف الاستيطان بموقع قلعة البحرين، وأصبح مهجوراً، وذلك قرابة العام 400م، بقيت منطقة كرانة معمورة بالسكان وعاش أهلها بصورة مستمرة جيلاً بعد جيل. هذا ما تثبته تلال القبور الأثرية التي اكتشفت في كرانة والتي تعود لفترات تاريخية مختلفة. وهي بذلك تكون سلسلة غير منقطعة من الاستيطان في هذه المنطقة منذ الحقبة الدلمونية وحتى الحقبة الهلنستية التي سبقت الإسلام (Velde 1998). وبعد الحقبة الهلنستية، لا نمتلك دلائل آثارية تشير لبقاء الهلال الخصيب الذي كان يحيط بالمدينة الرئيسية في قلعة البحرين، (Andersen 2007, p. 99). ويبدو أن تلك المناطق هجرت وارتحل من بها إلى المناطق الداخلية، كالمقشع والحجر وجدحفص، وهذا ما سوف نتناوله بالتفصيل في حلقات مقبلة.

وبقيت هذه المناطق مهجورة حتى بداية الحقبة العيونية، التي بدأت بإحياء هذه المناطق من جديد؛ حيث عثر في موقع قلعة البحرين على أطلال مدينة إسلامية، وبحسب نتائج البعثة الدنماركية فإن هذه المدينة تأسست في الحقبة العيونية، وقد استمرت لأكثر من ثلاثة قرون. والتي يتبع لها سوق تجارية مركزية، وكذلك يتبع لها الحصن الإسلامي، الذي بني في فترة سابقة، والذي تم تحويله من قبل العيونيين إلى مصنع للدبس (Frifelt 2001).

وقد بقيت هذه المدينة التجارية بعد الدولة العيونية؛ حيث ورثها الهرمزيون والسلغريون، وورثوا النظام الاقتصادي فيها. وبالتوازي مع ظهور هذه المدينة، بدأت جماعات جديدة من شعب البحرين القديم بإعادة استيطان هذه المنطقة. فظهرت في تلك المنطقة الآثار الدالة على استيطان الناس في هذه المناطق.

آثار الاستيطان في حلة العبدالصالح

أول من نقب في موقع حلة العبد الصالح هو Cornwall، وذلك في العام 1941م؛ وقد نقب في منطقتين على الساحل الشمالي ولم يذكر لهذه المناطق أسماء، بل حدد موقعها نسبة لمنطقة مروزان، والتي كانت لها شهرة كبيرة في ذلك الوقت، فأما الموقع الأول فهي تلال تقع غرب مروزان (وموقعها الحالي في جدحفص)، وأما المنطقة الثانية فتقع شمال تلك التلال وهي حالياً ضمن آثار قرية حلة العبد الصالح (Porter and Boutin 2012). وتقع تلك المنطقة على قرابة 300 متر شمال تلال جدحفص، وفي هذه المنطقة اكتشف Cornwall بقايا مبنى «يبدو أنه يعود إلى تاريخ قديم. وقد بني من حجارة ضخمة، بعضها مازال يتخذ شكلاً جيداً. وفي واحدة من الصخور التي يبلغ مساحتها نحو قدمين ونصف قدم مربع تجويف يتخذ شكل الكوب يوحي بشبه مماثل للصخور التي عثر عليها في المعابد السومرية – والتي بها تجويف لمفصلة باب... ويوحي تآكل الألواح الكبيرة بأنها قديمة جداً وتختلف بشكل بين عن ذلك النوع من الصخور التي تستخدم في البناء في البحرين والتي تدل على العصور الكلاسيكية وما تلاها» (كورنوول 1999، ص 54).

وفي البحث الذي نشره Cornwall في العام 1946م وضع صورة لتلك الآثار وقال إنها تعود لحقبة ما قبل الإسلام (Cornwall 1946). وقد أعيد التنقيب في الموقع الذي نقب فيه Cornwall، وتم نشر صورة لهذا الموقع في كتاب الشيخة مي الخليفة «من سواد الكوفة إلى البحرين» وقيل عنه أنه «مجلس العقدانية»، الذي يجتمع فيه القرامطة (الخليفة 1999، ص 251). ولازال الغموض يكتنف هذا الموقع الذي تم دفنه دون أن يتم تحديد هويته أو تاريخه بصورة قطعية.

وفي العام 2010م تم اكتشاف موقع أثري آخر بالقرب من هذا الموقع، وتم التنقيب فيه، وقد نشرت وزارة الثقافة والإعلام تعميماً حول هذا الكشف نشر في الصحف المحلية بتاريخ 2 مايو/ أيار 2010 جاء فيه:

«تم الكشف عن مبانٍ تاريخية في الموقع (أي موقع حلة العبدالصالح) أبرزها مبنى كبير عبارة عن حصن مدعم ببرج دائري مع تفاصيل لحجرات ومرافق وغرف للعيش مع وجود عدد من الحمامات والبرك. ويوحي المظهر الخارجي للمبنى الرئيسي عن تقنية معمارية عالية وتصميم هندسي رائع، مما يجعل هذا الموقع الأثري ذا أهمية تاريخية من حيث النمط المعماري والفترة الزمنية التي من المحتمل أن تكون عائدة إلى القرن الخامس عشر الميلادي، حيث يتضح ذلك من بقايا الأعمدة والأقواس وما تم الكشف عنه من خزفيات ملونة وأخرى فخارية. وقد تم الكشف عن عدد من الخزفيات الملونة وأخرى فخارية، كما احتوى المبنى على مجموعة من غرف تخزين التمور وصناعة الدبس وهذا ما تؤكده العديد من المدابس التي وجدت في الموقع، وكذلك تم العثور على مجموعة من الأصداف والخرز والقطع المعدني» (صحيفة الوسط 2 مايو 2010م).

هناك من يرجح أن هذا المبنى هو مركز السلطة السياسية التي حكمت البحرين في تلك الحقبة، ولكن مع قلة المعلومات لا يمكننا أن نبلور أية نظرية حوله في الوقت الراهن، ولا حول ماهية الموقع الذي عثر عليه Cornwall. وربما كان الموقعان جزءاً من آثار مدينة محصنة لم يكشف إلا عن بعض ملامحها.

آثار الاستيطان في كرانة

كرانة، القرية التي يرجح أنها هجرت في حقبة قبل الإسلام، عادت لتظهر من جديد بعد الحقبة العيونية. ولا نعلم بالتحديد متى بدأ الاستيطان في كرانة ولا متى ارتبطت المنطقة باسم «كرانة»، إلا أن أقدم ذكر لاسم قرية «كرانة» كان قرابة العام 1560م، وذلك على حجر قبر قديم يوجد في المقبرة المشتركة بين كرانة والقلعة وحلة العبد الصالح، وهو قبر «محمد بن ناصر بن عبدالله بن ربيع الأوالي»، والذي توفي العام 1560م (Kalus 1990, pp. 86 - 87)، والذي بني عليه مسجد يعرف باسم مسجد الروضة؛ وعليه فإن قرية كرانة كانت معروفة قبل هذا التاريخ بعشرات السنين أو ربما أكثر من ذلك.

يذكر أن المناطق المجاورة لكرانة وحلة العبد الصالح، وهي جدحفص والمقشع والحجر والقدم، كانت سلسلة الاستيطان فيها أكثر تواصلاً من غيرها من القرى، حيث إن سلسلة الاستيطان تبدأ فيها منذ الحقبة الدلمونية وحتى الحقب الإسلامية. يتبع.

العدد 4375 - الجمعة 29 أغسطس 2014م الموافق 04 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً