العدد 4375 - الجمعة 29 أغسطس 2014م الموافق 04 ذي القعدة 1435هـ

سميح القاسم... مع الراحلين في غزة

سميح القاسم
سميح القاسم

دائماً ما تكون لحظة ميلاد الشعراء لحظة غير عادية، ربما هي كذلك، وربما هي من منسوجات السرد المغرض بالمعنى الإيجابي للغرض الذي دائماً ما يبحث في «فتافيت السيرة» ومنفضة الحياة وحكايات العظماء والشعراء عن إشارة غير عادية يربطها بوظيفة من وظائف الشعر، أو بنية سيرتهم الذاتية. ولعلَّ هذا ما يحدث مع شاعر بقامة سميح القاسم، فكثيراً ما كان يعود الحديث معه إلى تلك اللحظة الدالة شعرياً في طفولته التي تستمر عادية حتى بزوغ هذه اللحظة التي تشير إليها القصة التالية.

يروى أن «الشاعر سميح القاسم» لما كان طفلاً أخذ يبكي في القطار والطائرات تحلق من فوقه فما كان من الجميع سوى أن طلبوا من أبيه إمّا إسكات هذا الطفل أو يقتلونه حتى لا يلتفت لهم الجنود الألمان فأصر الأب على عدم ترويع الطفل بإسكاته عمداً وإدخال الهلع في قلبه، ثم قال لهم: الطائرات لا تسمع حتى صوت القطار، فكيف ستسمع صوت الطفل! فقال القاسم حين رويت له هذه القصة: «حسناً لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة، سأريهم، سأتكلم متى أشاء، وفي أي وقت، وبأعلى صوت، ولن يقوى أحد على إسكاتي»

بين لحظتي الميلاد والرحيل

إذا أرادت السيرة الذاتية أن (تتخاتل) لتلتقط اللحظات الدالة في مسيرة الإنسان المروي عنه فليس لها من شيء أجمل من لحظتي «الميلاد والرحيل» على بينهما من تضاد حيث تأخذ السيرة الذاتية ثقافياً في البحث عن تفاصيل هاتين اللحظتين لتجد ما تتكئ عليه لصناعة سيرة ذاتية عير عادية وليكونا أكثر من قوسي تنصص ذي دلالة تؤكد الغرض الكبير الذي تمتلئ به عادة سيرة هذا الإنسان البطل في مقابل السير العادية في الحياة اليومية المعتادة. من هنا كان لنا أن نلتقط لحظة القطار التي أشار إليها الشاعر نفسه في أكثر من لقاء ولحظة الوفاة مع الراحلين من غزة تزامنا مع ما تعيشه غزة هذه الأيام من مأساة إلا أنها مصرة على البقاء في وجه العسف كما هي مسيرة هذا الشاعر ومضامين وأغراض قصيدته على المستوى الوظيفي.

لا أخاف الموت

دائماً ما كان يردد الشاعر «أنا لا أخاف الموت لكني أكرهه»، وها قد أتت لحظة الكراهة التي عناها الراحل سميح القاسم والذي كان قد أنجز مشروعه الشعري منذ زمن بل يكاد يكون كذلك منذ اللحظة الشعرية الأولى كون شعره كان مخلصاً وباقياً على العهد والميثاق الذي يأخذه الشعراء على أنفسهم لتلك اللحظة الأولى في ألقها المتوقد، وحماسها الدائم، وحضورها الذي تراكم لاحقاً قصيدة بعد قصيدة وحدثاً بعد حدث. هذه القصائد التي أصبحت كلاشيهات الثورة والانتفاضات المتعاقبة في فلسطين بل في كل قطر عربي حينما تشتعل الأوضاع وينتفض الناس الطيبون المتعبون البسطاء الذين كان الشعر دائماً يغني لهم وبهم ومعهم.

لم يغادر حلمه

لعلَّ أحد أسرار الألق الشعري في قصائده بالإضافة إلى رشاقة في اللغة تعبر عن شاعر مرهف مفعم بحب الحياة رغم ما يعيشه من عسف وعنف وألم والتي يختصر بها حياة جيل، إلى كل ذلك فإنه دون الكثيرين من مجايليه استطاع أن يمسك بزمام اللحظة الأولى للكلام حتى اللحظة الأخيرة، فلم يغادر وطنه، ولم يغادره حلمه الأول، ولم يغادر حماسته فلم يغادره ألق الشعر الذي شبَّ عليه، فمازالت جمرة الشعر واقدة لديه يشتعل أوارها حتى الرمق الأخير من الحياة، هذا هو سميح القاسم الذي غادرنا ولم نغادره.

خميرة هذا الوطن

إذا كان لكل من اسمه نصيب فهذا هو سميح القاسم بسماحته ودماثة خلقه وشفافية روحه وعذوبة حديثه، وهذا هو القاسم الذي يلهبك وهو يتلو قصائده وكأنه يشتعل شعراً، ويقصم مناوئيه بحروفه «تقدموا تقدموا كل سماء فوقكم جهنم» بينما سماحته تأخذك إلى طيبة وبساطة الفلسطيني وهو يسرد حكاياته على محاوريه، فيطربك بتلقائيته وبرودة ابتسامته وظرافة حديثه، يجرونه للسرد ويجرهم للشعر، يجرونه للسياسة ويجرهم لبساطة الإنسانية في شخصه، وفي شعبه الذي يقول عنه أنه هو خميرة هذه العروبة وهو صنيعتها في شعر يطفح بالرفض والحماسة والاستنكار والشجب والوطنية وكل ما شاء لك أن تقول.

مع الراحلين من غزة

كما اختار لنفسه أن يسلك هذه الدرب الصعبة حين قال لصاحبه «إما أن نموت معاً أو نعيش معاً» فقد اختار له القدر أن يمضي مع الراحلين في غزة، ورغم أنه ليس للمرأ أن يوقّت لحظة موته ولكنه دائماً ما كان يجيب سائليه أنه سيكون راضياً بهذه اللحظة بشجاعة الشاعر، رغم الكراهة. وتكمن الشجاعة، بالإضافة إلى أنه قد أنجز مشروعه الشعري مبكراً، أنه كان رغم عسف المراحل المختلفة التي مرت عليه، كان مصراً على البقاء في الوطن لم يغادره حلماً ولا أملاً كما لا يغادره شعراً أبداً. وبذلك فقد مر بتجربة الموت مرات عديدة واختبر ذلك مع الناس في اللحظات الحالكة التي مرت بهم وبه.

واختبر ذلك شعرياً حين غادره صديقه محمود درويش وكأنه هو هو، يرثي نفسه إذ يرثيه، ويقرأ على روحه الفاتحة، حين قرأها على روح صديقه بما لمعنى الفاتحة من فتح لحياة أخرى مضافة تحلق به في الآفاق مرة أخرى، حيث كانت الفاتحة على روحه فاتحة للكلام والقراءة التي ستظل مفتوحة على أفق قادم دائماً.

العدد 4375 - الجمعة 29 أغسطس 2014م الموافق 04 ذي القعدة 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً