بوجه من الوجوه يمكننا، إلى حد ما، تشبيه الهزيمة التي تلقتها الحكومة العراقية في غزوة «داعش» لمدينة الموصل في التاسع من يونيو/ حزيران الماضي 2014 بهزيمة مصر الناصرية أمام «إسرائيل» في نفس التاريخ من العام 1967.
ورغم اختلاف الظروف والسياقات التاريخية للحدثين، ففي كليهما كان ثمة نصر خاطف للعدو، جرى على خلفية خيانة عسكرية في الحالة العراقية، وإهمال وتسيب جسيمين يرقيان إلى درجة الخيانة في الحالة المصرية. وكان هناك فسادٌ ينخر جهازي الدولة في كلتا الدولتين، وإن بدأ في الحالة المصرية الفساد السياسي أكثر بروزاً من الفساد المالي كما في الحالة العراقية. وفي كلتا الحالتين ثمة انسحاب عسكري من أمام العدو، كما في سيناء الذي انتهي في 9 يونيو إلى الهزيمة المصرية وخروج الشعب المصري بكل فئاته على إثرها معلناً رفضه للهزيمة ومتمسكاً باستمرار قيادة الرئيس جمال عبدالناصر ورافضاً تخليه عن الرئاسة، وهذا ما لم يحدث في حالة المالكي.
أما في 9 يونيو العراقية فكان النصر الداعشي الخاطف بداية لـ «فتوحات» و»انتصارات» لاحقة على امتداد محافظة نينوى وعلى مشارف المحافظات الغربية. وكان الشعب العراقي يعيش أسوأ تشطير وانقسام طائفيين يعرفه في ظل الدولة الحديثة منذ تأسيسها قبل نحو قرن بالتمام، وكان هذا الانقسام أحد العوامل الرئيسة لتحقيق «داعش» نصرها الخاطف وبدعم مفضوح من قوى إقليمية ودولية. وعلى إثرها جرت سلسلة من التداعيات انتهت برئيس الحكومة نوري المالكي إلى الرضوخ للاستقالة وتسليمها لخلفه حيدر العبادي بعد انتخاب توافقي على رئيسي الجمهورية والبرلمان.
وفي كلتا الهزيمتين يعد العامل الديمقراطي العامل المشترك في تسببهما، ففي الحالة المصرية كان غيابه كلياً عن النظام الناصري، أما في الحالة العراقية فقد أفرزت التجربة الوليدة ديمقراطية كسيحة لا تحصن الوطن من الاختراق. ومثلما عبّر أحد كبار القادة العسكريين الإسرائيليين غداة هزيمة يونيو 1967 بأن القوات الإسرائيلية التي اجتاحت شبه جزيرة سيناء خلال أقل من ستة أيام (لعله وزير الدفاع موشي دايان) كان بإمكانها لو شاءت الوصول إلى العاصمة القاهرة في خلال أقل من ساعتين حيث كان طريق السويس – القاهرة مفتوحاً بلا مقاومة، ولكن آثرت عدم الخوض في هذه المغامرة العسكرية تفادياً من عواقب ومغبة الوقوع في فخ الالتحام بتلك الكتلة البشرية الكثيفة التي تمثلها ديموغرافية هذه المدينة التي يصل تعدادها حينئذ إلى خمسة ملايين نسمة، حذر الكثير من المراقبين والمحللين من خطورة الانتصارات الخاطفة المتسارعة لداعش ودقّوا ناقوس الخطر من احتمالات تقدّمها نحو العاصمة بغداد أمام تراجع القوات العراقية، والفوضى العارمة وحالة الإرباك التي ظلت ومازالت تواجه قيادتها، لكنهم أيضاً حذّروا من أن «داعش» ستواجه وضعاً غير مريح وكارثياً ينذر بهزيمتها لو غامرت بالوصول إلى العاصمة (خمسة ملايين) ومدن الجنوب، وجميعها مدن ذات كثافة سكانية عالية ومستهدفة من «داعش» في عقيدتها الدينية، ومن ثم لا تشكل حواضن كما هو الحال في نينوى والمحافظات الغربية مستفيدة – «داعش» – من فوضى خلط الأوراق والانشطار الاجتماعي السائد الذي غذّته الديمقراطية المحاصصية الكسيحة التي جرى إرساؤها ورعايتها في ظل الاحتلال الأميركي وبمباركته، وحيث لم يتورّع الرئيس الأميركي أوباما قبل أيام خلت أن يعيب على حكومة المالكي خطأها الفادح باجتثاث «البعث» الذي اعتبره ضمنياً بأنه ساهم في تأجيج التشطير الطائفي، وأنه كان سلاحاً في يد رئيس الحكومة المالكي لممارسة لعبة الإقصاء والتهميش الفئوي متناسياً، أوباما، أن إدارة الاحتلال هي من شجّعت على اتخاذ هذا القرار، والأخطر منه كان قرار حلّ الجيش والمؤسسة الأمنية، ومنها حرس الحدود وجهاز المخابرات، الأمر الذي جرّد عملية إعادة بناء الدولة من أي أساسيات صالحة وسط الحطام الذي خلفه انهيارها برمتها، أي بجيشها وجهازها الإداري والمدني، وبأجهزتها المخابراتية الأمنية والعسكرية.
وهذا ما لم يفعله أو يواجهه عبدالناصر مثلاً وإن في ظروف سياسية وتاريخية مختلفة بعيد إسقاطه النظام الملكي في 23 يوليو/ تموز من العام 1952، فقد احتفظ بكل ما يمكن أن يستفيد منه من النظام القديم في عملية إعادة بنائه للنظام الجديد الذي يروم إلى تشييده تحت شعارات وأهداف الثورة. وكان أعظم تركة ما استفاد منها ولم يقض عليها بجرة قلم جهازا الاستخبارات العسكرية والأمنية حتى نما وتغوّل كلٌّ منهما تغولاً خطيراً في حقبته على نحو أشد وأخطر من الحقبة الملكية. فكان ناصر بالتالي من الدهاء والذكاء في إدراك خطورة ودور هذين الجهازين لحماية النظام الجديد وحماية موقعه القيادي بحيث لا يفرط بجرة قلم تحت تأثير نزعة الانتقام أو تحت تأثير جموع الرغبة في التطهير الثوري المتهور في الكفاءات وكوادر الجهازين، فتمت استمالة وإعادة تأهل من يمكن استمالتهم وتأهيلهم، وتم تطهير واستبعاد العناصر الأشد خطورة والأقل وثوقاً.
لكن هذا ما لم يجر في الحالة العراقية، فلم يتم تدارك أو التنبه لكل هذه الأخطاء القاتلة إلا بعد فوات الأوان، ومن ذلك ما أعلنه مؤخراً على سبيل المثال، لا الحصر، الفريق ثامر بن سلطان التكريتي المستشار في وزارة الدفاع، والذي كان قائداً للفرقة العاشرة في الجيش إبان الحرب على إيران وأتهم بالخيانة وحكم بالإعدام، من وجود توجه حالياً بضم الضباط السابقين للاستفادة من خبراتهم لمواجهة التنظيمات المسلحة وعلى رأسها «داعش» وتحرير الأراضي التي يسيطرون عليها («الشرق الأوسط»، عدد 15/8/2014).
ولئن كان تغيّب الديمقراطية في الحالة المصرية لم يخل من الأسباب الموضوعية التي جرت على خلفية ظروف مرحلة تاريخية اتسمت موضوعياً بتدني الوعي الديمقراطي ليس لدى السواد الأعظم من الشعوب العربية فحسب بل ولدى قواها السياسية بذريعة انشغالها بأولوية إنجاز واستكمال مهام التحرر الوطني في مواجهة الاستعمار والامبريالية؛ فإنه في المرحلة الراهنة، مرحلة انفجار الوعي الديمقراطي والوعي بحقوق الإنسان عالمياً، لا بديل لكل القوى السياسية العراقية عن المشاركة والانخراط في العملية السياسية باتجاه التعاون الجاد والتجرد لإعادة بناء الدولة العراقية ومؤسساتها الدستورية والديمقراطية على أسس وطيدة من العدالة والمساواة والتمثيل المتكافئ لكل ألوان الطيف السياسية والدينية والقومية والعرقية. ومن دون ذلك سيظل العراق نازفاً أسيراً لدوامة الاحتراب الداخلي الأهلي المديد، وذا مناعة هشة عرضةً للاختراقات الخارجية، بل وستظل ساحته عرضةً لتصفية الحسابات الإقليمية والدولية التي لا تنتهي.
إقرأ أيضا لـ "رضي السماك"العدد 4372 - الثلثاء 26 أغسطس 2014م الموافق 30 شوال 1435هـ