العرب على أبواب التعددية القطبية وعليهم ترصين العلاقات الدولية بما يخدم مصالحنا الوطنية والقومية، عبر مواجهة نزاعات التفتيت والطائفية، وهزيمة الهويات الجزئية؛ أو السقوط في واد سحيق.
بعد نهاية الحرب العالمية الثانية، ونتيجة لهزيمة دول المحور في هذه الحرب، وبداية النهاية للاستعمار التقليدي، فقد دشن النظام الدولي الذي أقيم بعد الحرب مباشرة، هيمنة الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي على صناعة القرار الأممي. وكان سقوط «عصبة الأمم»، وتشكيل مؤسسة دولية جديدة، اتخذت من مدينة نيويورك الأميركية، مقراً لها، وتحت مسمى «هيئة الأمم المتحدة»، وتكوين مجلس أمن دولي بخمسة أعضاء دائمين، يملكون حق النقض «الفيتو»، قد عبّر بصدق عن توازنات القوة فيما بعد الحرب، وأن مرحلة سياسية جديدة في العلاقات الدولية قد بدأت.
كان نشوء حركات التحرر الوطني في دول العالم الثالث، التي ناضلت ضد الاستعمار، ومن أجل إنجاز الاستقلال، هو من أهم التجليات السياسية في القرن العشرين. ولا شك أن انحياز السوفيات، ولاحقاً الصين والهند لهذه الحركات، وموقف الولايات المتحدة الأميركية المتواطئ، والهادف إلى استكمال انحسار الاستعمار التقليدي، والحلول محله، قد أسّس لنهاية الاستعمار التقليدي، ومكّن شعوب العالم الثالث من إنجاز هدف الاستقلال.
لم تمض نهاية الستينيات من القرن الماضي، إلا ومعظم بلاد العالم الثالث، ومن ضمنها البلاد العربية، قد أنجزت استقلالها السياسي، سواءً بالاتفاق سياسياً مع المحتل أو عن طريق الكفاح المسلح.
في الوطن العربي ظلت القضية الفلسطينية، جرحاً نازفاً، وبقي الحلم الفلسطيني في حيازة دولة مستقلة كاملة السيادة مؤجلاً، واستمر الكيان الصهيوني قاعدة تهديد مستمر للأمن القومي العربي.
في تلك الحقبة التاريخية، انقسم الوطن العربي في خياراته السياسية بين المعسكرين المتنافسين، المعسكر الرأسمالي والمعسكر الاشتراكي. قسم اختار التحالف مع الاتحاد السوفياتي والكتلة الاشتراكية، وقسم آخر أبقى على علاقات استراتيجية وصداقة متينة مع الغرب.
وقد ترك هذا الانقسام آثاره السلبية على مسيرة العمل العربي المشترك. كما ترك آثاره المروعة على صراعنا مع العدو الصهيوني، وعلى نتائج المعارك المصيرية التي خاضتها الأمة في مواجهة نهجه الاستيطاني، التوسعي العدواني، وبشكل خاص في عدوان الخامس من يونيو العام 1967.
لكن ذلك الانقسام، حمل بعض العناصر الإيجابية، ليس للعرب وحدهم بل لجميع بلاد العالم الثالث، فقد ترك الباب مفتوحاً لهذه الدول أن تختار بحرية نسبية نظمها السياسية، وتحديد طبيعة تحالفاتها. ذلك لا يعني مطلقاً، انتفاء ضغوط الدول الكبرى، العسكرية والاقتصادية على دول العالم الثالث، ولكنها لم تكن قدراً مقدراً متى امتلكت الأمة الإرادة.
لقد عنى ذلك، إمكانية التخلص من سياسة الاحتكار، وتنويع مصادر التكنولوجيا والسلاح، بما يخدم مصالح كل بلد على حدة. في ظل الثنائية القطبية، كان بالإمكان صياغة سياسة عربية موحدة، تستفيد من الممكنات المتوافرة لدى القطبين الرئيسين العظميين، وكان بالإمكان أيضاً الاستفادة من تعدد التحالفات العربية معهم، بما يخدم أهداف الأمة العربية، وصيانة أمنها القومي. لكن ذلك لم يحدث للأسف إلا في حالات استثنائية محدودة، لعل أهمها الموقف ضد الأحلاف العسكرية، في نهاية الخمسينيات، والتضامن العربي القوي في حرب أكتوبر 1973، وموقف مجلس التعاون الخليجي المساند للعراق أمام الهجمات الإيرانية بالثمانينيات، وبشكل خاص بعد أن تحوّل العراق من الحالة الهجومية إلى حالة الدفاع عن التراب الوطني. لقد تمكّن العراق بفعل تعدد مصادر التسليح، والمساندة القوية من قبل المملكة ودول الخليج، من تحقيق النصر، وفرض وقف إطلاق النار.
بسقوط الاتحاد السوفياتي وسقوط الكتلة الاشتراكية، تربّعت الولايات المتحدة بمفردها على عرش الهيمنة الدولية، وتمكّنت من فرض سيطرتها على قرارات مجلس الأمن الدولي، والأمم المتحدة والمنظمات الدولية الأخرى، وقامت باحتلال أفغانستان والعراق. وعلى رغم حدوث بعض الاختراقات أثناء حقبة الأحادية القطبية فيما يتعلق بالصراع العربي مع الصهاينة، لكن جميع التسويات كانت على حساب العرب، وقد قضمت الكثير من حقوقهم.
نحن على أبواب مرحلة انتقالية، من نظام دولي اعتمد الأحادية القطبية إلى نظام دولي آخر، أهم ملامحه أنه نظام متعدد الأقطاب. وكالعادة عند كل مرحلة انتقال، هناك اهتزاز في المعايير الأخلاقية، وفي القانون الدولي، وفوضى في العلاقات الدولية. وكان من سوء طالعنا نحن العرب أن أمتنا هي من المفاصل الرئيسة عند كل انتقال، بما يجعلنا ندفع الكثير من مصالحها وحقوقها في محطات الانعطاف.
كان نصيبنا في نهاية الحرب العالمية الثانية، فرض تطبيق اتفاقية «سايكس بيكو»، التي قسّمت بلاد الشام إلى أربع كيانات، وضعت سورية ولبنان تحت الاحتلال الفرنسي المباشر، ووضعت فلسطين تحت الانتداب، والأردن تحت الحماية البريطانية. ووعد بلفور الذي منح اليهود وطناً قومياً على أرض فلسطين، ووضع العراق تحت الحماية البريطانية أيضاً.
وكان نصيب الأمة بعد الحرب العالمية الثانية، وبداية القطبية الثنائية نكبة فلسطين، وتأسيس الكيان الصهيوني الغاصب، ولم يكن نصيبنا من الأحادية القطبية أقل سوءًا. فقد دمّر العراق وصودر كياناً وهوية، وتصاعدت عمليات الاستيطان الصهيوني في فلسطين، وبدأت طلائع الحروب الأهلية في عددٍ من البلاد العربية.
الآن ونحن على أبواب التعددية القطبية، تعيش الأمة واقعاً أكثر مرارة. فالسودان والعراق جرى تقسيمهما بشكل معلن، واليمن وليبيا وسورية في انتظار مشاريع مماثلة.
أمام العرب خياران، إما استثمار هذا التحوّل في كتابة تاريخ مغاير، من خلال العمل على ترصين العلاقات الدولية بما يخدم مصالحنا الوطنية والقومية، وأول خطوة على هذا الصعيد هي مواجهة نزاعات التفتيت والطائفية والعدوان، وإعادة الاعتبار لمفهوم المواطنة، وهزيمة الهويات الجزئية؛ أو السقوط في وادٍ سحيق.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4370 - الأحد 24 أغسطس 2014م الموافق 28 شوال 1435هـ