لم تعد كتابة التاريخ حكراً على المنتصرين، كما ذهب إلى ذلك رئيس الوزراء البريطاني السابق ونستون تشرشل، فمع التطور التكنولوجي المتسارع، ولدت وسائل الاتصال الاجتماعي، وكان لبرنامج الصور الشهير «انستغرام»، وقع خاص، وجاذبية تمخضت عن ظهور أكثر من 50 حساباً بحرينيّاً تختص بتدوين التاريخ.
ووفقاً لما ذهب إليه عدد من أصحاب «الحسابات التاريخية»، ممن التقتهم «الوسط»، فإن هذه الحسابات أدت دوراً جباراً في حفظ جزء كبير من تاريخ البحرين، لكنهم عادوا للتأكيد على أن ذلك مجرد «نواة أولى، يجب أن تعقبها مشاريع توثيقية أخرى، تقوم بالمهمة على نحو أكثر عمقاً وأشد رصانة».
وأماط عدد منهم، النقاب عن مشروعات توثيقية مقبلة، حيث كشف صاحب حساب «الجريش» جاسم آل عباس، عن عزمه على إصدار كشكول باسم سنوات الجريش، مدعوماً بالصور والمعلومات، فيما بين صاحب حساب (الرياش2013) توفيق الرياش، عمله حاليّاً على إنشاء موقع إلكتروني متكامل عن تاريخ المنامة، يحمل مسمى «قصة المنامة».
ظروف الولادة وطبيعة الدور
يبدأ الرياش، حديثه بالإشارة إلى أن بدايات ظهور الحسابات التاريخية كانت خجولة، إلا أن الظروف السياسية جعلتها هدفاً للكثيرين ممن يبحث عن الحقيقة التاريخية أو أخذها مصدراً للمعرفة التاريخية للرد على الشبهات، مرجعاً ذلك إلى سهولة حفظ المعلومة المرتبطة بالصورة، ما ساهم في انتشار هذه الحسابات، حتى أصبح بعضها متخصصاً في مدينته أو قريته، معتبراً أن «هذا الدور، سيكون له الأثر الطيب في بناء تاريخي غني في المستقبل، وهو ما افتقدناه في الحقب الماضية».
بدوره، بيَّن آل عباس، الذي يحتل حسابه الصدارة من حيث الجماهيرية وعدد المتابعين، أن عملية التدوين والتوثيق لتاريخ البحرين، كانت مقتصرة على النشر في الموقع الإلكتروني، حتى قدم له عدد من الأشخاص نصيحة بإنشاء حساب على برنامج «انستغرام».
وأضاف «تجاهلت النصيحة بادئ الأمر، وحين أقدمت على الخطوة، فوجئت بحجم التفاعل الكبير من قبل المتابعين، حيث يبدو أن البحرينيين الأنشط انستغراميّاً على مستوى شعوب الخليج، اذا ما استثنينا الكويتيين».
وتفسيراً لكل هذا التفاعل، يقول: «نحن في عصر السرعة، والناس لا يجدون وقتاً لقراءة المواد المطولة، وفي ظل عزوف ملحوظ عن معانقة الكتاب، فإن البديل يكمن في المواد الجاهزة والسريعة، وهو ما يتيحه الانستغرام، حيث الصورة والمعلومة المختصرة».
من ناحيته، أدلى صاحب حساب «البلاد القديم»، حسين أحمد المديفع، بدلوه، مشيراً إلى أن ظهور حسابات «الانستغرام» الخاصة بتدوين تاريخ البحرين، جاء نتيجة ظروف معينة، معتقداً، في الوقت ذاته، أن هذه الحسابات تقوم بدور كبير، وهي أشبه بنواة أولى، ساهمت في نقل تاريخ البحرين من مرحلة الضياع إلى مرحلة الحفظ.
وأضاف أن عمل الحسابات يتركز على مرحلة التدوين، التي يفترض أن تعقبها مرحلة الحفظ، عبر نشر ما يتم تدوينه على هيئة إصدارات وكتب، لافتاً إلى وجود أفكار مستقبلية في هذا الإطار، وتشمل إصدار كتب توثق لتاريخ العاصمة القديمة للبحرين.
دور جبار... لكنه غير كافٍ
وعلى رغم اعترافه بالعمل الايجابي الذي تقوم به الحسابات التاريخية، فإن الرياش لا يرى كفاية الاعتماد على ما تقوم به هذه الحسابات في سياق تدوين التاريخ، موضحاً رأيه هذا بالقول: «أدوات التواصل الاجتماعي ما هي إلا وجبات سريعة للمعلومات فيها، الصحي وفيها غير الصحي، لكننا لا ننكر، أنها تفتح الباب للكثيرين وتقودهم وترشدهم إلى المصادر»، متوقعاً أن تتحول هذه الحسابات إلى مصدر مستقبلي لتوثيق الحدث الحالي، ودليل للباحثين عن التاريخ بصيغ غير أكاديمية أو بعيداً عن السرد الممل أو المدرسي.
ويضيف «هذه الحسابات لا تكفي، لكنها قد تسد فراغاً مؤقت للوصول الى التاريخ الحقيقي للبلد، عبر نشر الوثائق والصور التي من الصعب محوها أو إزالتها بواسطة الرقيب، وذلك لكثرة انتشارها وتعدد طرق الوصول إليها».
ويرفض الرياش الحديث عن موضوعية تامة لعمل هذه الحسابات، معقباً بالقول: «لا أستطيع القول إن هذه الحسابات نقلت التاريخ كما هو، فبعضها اجتزئ من هذا التاريخ لعدة أسباب قد تكون ايجابية أو سلبية، وآخر اقتبس من الوثائق أو الأحداث التاريخية لتوصيل حدث بصورة أو طريقة يستطيع أبناء الجيل الحالي فهمها وهضمها».
لكنه يعود إلى نعت الحسابات التاريخية، بـ»الضرورة التي تتطلبها المرحلة»، قبل أن يستدرك «لكن هناك من حرَّف الحقيقة باستخدام هذه الطرق، وفي اعتقادي، فإن اكتشاف هذه المواقع لن يطول، على اعتبار أنها خلقت متابعين يدققون فيما يطرح ويرجعون الى المصادر؛ للتأكد من المعلومة، وهم بالمرصاد لكل من يريد أن يعبث بالتاريخ بحسن أو سوء نية».
وعن دور الحسابات في نقل تاريخ البحرين من حالة الضياع إلى حالة الحفظ، اعتبر أن «هذه الحسابات، خطوة أولى وبوابة لحفظ التاريخ، لكنها ليست مصادر يعتد بها عالميّاً»، مشدداً على «أهمية وضرورة الانتقال من مرحلة الفضاء المختصر (شبكات التواصل) إلى الفضاء الأوسع، وأعني هنا المواقع التاريخية الرصينة والمسجلة كمصدر معتمد، وكذلك تحولها الى كتب للباحثين».
من جانبه، أكد ال عباس أن ما تقوم به الحسابات التاريخية «عمل جبار»، وتساهم عبر ذلك، في إيصال المعلومة التاريخية إلى الناس بصيغة ميسرة، قبل أن يستدرك ليشدد على ضرورة تحري الدقة قبل نشر المعلومة، منوهاً في الوقت ذاته بتعليقات المتابعين التي تساهم في تصحيح بعض المعلومات الخاطئة، «وهي قيمة أخرى للانستغرام وخاصية التفاعل التي يتيحها»، على حدِّ قوله.
وبحسب آل عباس، فإن أعداد هذه الحسابات يتجاوز 50 حساباً، وتتنوع ما بين حسابات عامة تعمل على نشر تاريخ البحرين، وحسابات مناطقية، مهمتها تنحصر في توثيق تاريخ قرية أو منطقة معينة، مبيناً وجود تنسيق وتواصل بين عدد كبير منها، وهو أمر، يسهم في تعزيز عملية النشر والحفظ.
من جهته، أشار المديفع إلى أن الحساب الذي يشرف عليه، يجد تفاعلاً مميزاً من قبل أهالي البلاد القديم، وهو في اطراد قياساً بما كانت عليه البدايات، منوهاً إلى أن العمل على الحساب يتم بشكل فردي، «على رغم محالاوت مأسسته عبر تشكيل لجنة من عدد من أبناء المنطقة لتولي الإشراف على الحساب، من دون أن نوفق في ذلك».
ويستدرك «على رغم ذلك، فإننا نحتفظ بتواصل مستمر مع عدد من أبرز الشخصيات البحرينية الناشطة في تدوين التاريخ»، موجهاً حديثه ناحية المؤسسات، مطالباً إياها بدعم عمل الناشطين في مجال حفظ التاريخ، لوجستيّاً، على أن يستمر العمل بعيداً عن التجاذبات الحزبية أو المناطقية والعائلية.
الحسابات تتحول إلى مشاريع توثيقية
لا تبدو إلا خطوة أولى، في سياق مشوار توثيقي طويل وممتد... هكذا تبدو سيرة عدد من الحسابات التاريخية، وهو ما يوافق حديث الرَّياش، الذي يرى أن «الانستغرام» وغيره من أدوات التواصل والنشر الاجتماعي حفز الكثيرين للانطلاق إلى مشروعات أكبر، مؤكداً في هذا الإطار، عمله حاليّاً على إنشاء موقع إلكتروني متكامل عن تاريخ المنامة بمسمى «قصة المنامة»، موضحاً تفاصيل ذلك بالقول: «بدأت العمل على المشروع، وقد يستغرق أكثر من سنة حتى يتم إطلاقه بصورة سليمة بعد التحقق من مصادر ودقة المواضيع والصور التي سيحتويها».
وفي إطار حديثه عن المشروعات التوثيقية، بيَّن الرياش وجود عدد من الباحثين ممن يبحث إطلاق موقع إلكتروني يحوي كل ما كتب عن تاريخ البحرين مع تصنيفه والردّ على الضعيف منه بالأدلة العلمية والتاريخية، وفي حال رأى النور، فسيمثل أشمل موسوعة تاريخية للبحرين، على حد قوله.
بدوره، وفي معرض رده على سؤال عما بعد «الانستغرام»، يميط آل عباس اللثام عن مشروعه المقبل، موضحاً ذلك بالقول: «أنا عازم في الفترة المقبلة على طبع كشكول باسم سنوات الجريش، مدعوماً بالصور والمعلومات التاريخية، وبحسب علمي فإن أفكاراً شبيهة بذلك موجودة لدى عدد من الأصدقاء والمهتمين، وكلها تندرج تحت عنوان حفظ توثيق البحرين، الذي انتقل جزء كبير منه، من مرحلة الضياع إلى مرحلة الحفظ، وللانستغرام دور مشهود في ذلك».
إلى ذلك، وفي محاولة منه لتفسير جماهيرية الحسابات التاريخية، يبين المديفع أن بساطة هذه الحسابات، قد يكون أحد أسرار جماهيريتها، متحدثاً عن مساهمتها في رفع الوعي بأهمية التاريخ، وتصحيح عدد من الأخطاء الشائعة، مستشهداً على ذلك بمثال اسم المنطقة بالقول «الشائع بين الناس هو بلاد القديم، من دون ال التعريف، فيما الصحيح الذي تم نشره بين الأهالي هو البلاد القديم».
مهمشون... لكننا صناع قرار
ويذهب آل عباس، بعيداً من خلال الجزم بقدرة هذه الحسابات وعموم وسائل النشر الالكتروني، على النهوض بالجهات الأهلية الرسمية المعنية، باتجاه حفظ بعض المواقع الأثرية، مستشهداً على ذلك بالقول: «حدث ذلك مع أكثر من موضوع، بما في ذلك موضوع جامع بوري القديم، حيث أقام أهالي قرية بوري ندوة تستهدف إنقاذ الجامع المهدد بالسقوط، وذلك في أعقاب دعوة نشرت على حساب الجريش خاصة بذلك، الأمر الذي أثمر تحركاً من قبل وزارة الثقافة، والبدء في أعمال ترميم الجامع».
ويضيف «ما ننشره يترك صدى، ونحن نعلم أن الجهات الرسمية المعنية، وتحديداً وزارة الثقافة، تتابع عملنا، علاوة على متابعة نحظى بها من قبل شخصيات عامة، وهو أمر يتيح لنا الإسهام بتغيير في مساحة معينة».
عمل لا يخلو من صعوبة
ويتفق الرياش مع من يرى صعوبة تعتري عمل هذه الحسابات، مرجعاً ذلك إلى شح المصادر، وعدم التفرغ، حيث يتطلب كتابة فقرة لا تتعدى عشرة أسطر في «الانستغرام» البحث في العشرات من الكتب وسؤال أكثر من شخص (كبار السن) وهو جهد لا يراه القارئ.
ويضيف «المتابعون للحسابات التاريخية مختلفون، فمنهم من يحب أن يبحث ويقرأ تاريخ وطنه بهدف التعلم والاطلاع، وآخر يطلع بهدف الرد على من يحاول تزوير التاريخ، وثالث بهدف تثقيف أبنائه، ورابع يبحث عما لم يكتب في الكتب أو غاب عنها».
ويتقاطع رأي آل عباس مع ما ذهب إليه الرياش، حيث يرى أن الصعوبة حاضرة، في مهمة حفظ وتوثيق تاريخ البحرين عبر المواقع الالكترونية، بما فيها «الانستغرام»، محددا ذلك بالإشارة إلى عملية التأكد من صحة المعلومات، وذلك بالعودة إلى المصادر ومجموعة شخصيات مهتمة بالتاريخ.
لا طائفية... ونعمل لكل البحرين
وبضرس قاطع، ينفي آل عباس اقتصار عمل «حساب الجريش»، على حفظ تاريخ مكون بحريني بعينه، ويعتبر أن تهمة الطائفية لا أساس لها، مضيفا «نحن نعلم أن هذا المكون يعاني إقصاء وتهميشاً، ومن الطبيعي أن تأتي ردة الفعل على ذلك في بحث هذا المكون عن تاريخه وعمله على إثبات وجوده، وهو عمل مشروع ولا يعيبنا أبدا».
ويتابع «في عملنا، نحرص على الابتعاد عن بعض المسميات، وحين ننتقد نكتفي بنقد جهات رسمية دون الدخول في الدهاليز الطائفية، ويكفي أن أشير إلى أن متابعي الحساب هم من عموم البحرينيين، ومن أبناء الطائفتين الكريمتين، والرائع مساهمتهم معنا في عملية النشر عبر تزويدنا بالمعلومات».
القرى المندثرة... أبرز اكتشافاتي
وبنبرة، يكسوها الفخر والاعتزاز، يتحدث آل عباس عن أبرز ما توصل اليه من اكتشافات خلال مشواره الممتد مع التاريخ والبحث، لافتاً إلى أن الاهتمام بالمكان، أتاح لي اكتشاف عدد من القرى البحرينية المندثرة، كقرية الرويس، هلتا، وقزقز، إضافة إلى قرى كانت كانت مأهولة بالسكان، هجرت ثم سكنت.
ويضيف «قبل أن يتحدث سنوات الجريش عن ذلك، لم يكن مصطلح القرى المندثرة موجوداً، حتى أدى ذلك إلى فتح باب جديد في تاريخ البحرين بهذا الاسم».
العدد 4368 - الجمعة 22 أغسطس 2014م الموافق 26 شوال 1435هـ