«حسناً... لقد حاولوا إخراسي منذ الطفولة سأريهم وسأتكلّم متى أشاء وفي أيّ وقت وبأعلى صوت، لن يقوى أحدٌ على إسكاتي»، هذا ما قاله الشاعر الراحل سميح القاسم حين علم بشأن الحادثة التي تعرّض لها في طفولته أثناء انتقالهم من الأردن إلى فلسطين إبان الحرب العالمية الثانية، فقد كان والده ضابطاً في قوّة حدود شرق الأردن، وكانَ الضباط يقيمونَ هناك مع عائلاتهم، وحينَ كانوا في طريق عودتهم إلى فلسطين في القطار، بكى القاسم فذُعرَ الركَّاب وخافوا أنْ تهتدي إليهم الطائرات الألمانية، فبلغَ بهم الذعر درجة التهديد بقتله إلى أن اضطر والده لتهديدهم بسلاحه لردعهم.
لقد حاولوا إسكاته منذ طفولته لدرجة التهديد بقتله، وكأنهم كانوا يعرفون أنه سيكون صاحب كلمةٍ مقاومة، وصاحب موقفٍ مقاوم، وصاحب مبدأ لا يرضى بالتنازل عنه، فهو الشاعر الذي لم تثنه الاعتقالات المتكرّرة، ولا الإقامة الجبرية ولا المطاردات عن قول كلمة الحق والصدح بها حتى عُرِف بقوة حضوره وبصوته الذي لا ينكسر.
حين رحل سميح القاسم رفيق درب الشاعر الراحل محمود درويش، ذكّرنا برحيل الأخير حتى كتب أحد الأصدقاء مذكّراً: «لقدر رحل محمود درويش ثانية». نعم، فحين رحل درويش أناب القاسم عن الإثنين – ولو أن قامة كدرويش لا يمكن تكرارها- أناب عنه بكلمته الصارخة في وجه العدو وبشعره الآسر وبموقفه الذي لا يتزحزح، لكنه اليوم لم يستطع البقاء في زمن يرى فيه أبناء بلاده يقتلون، وأطفال غزة تلهو بهم النار وتدفنهم الحجارة أحياء حين يستظلون بأسقف لا تعرف مقاومة الحديد الماطر من طائرات العدو.
رحل بصمتٍ لا يشبهه وهو الذي ملأ الفضاء شعراً ومقاومة. رحل حين سمع النساء ينادين النخوة العربية المفقودة، والرجال يبكون لقلة الحيلة، والأطفال ينتظرون ثوب العيد غير الملطخ باليتم. فضّل الرحيل على مقاومة المرض، وهو الذي طالما شهر الـ «لا» في وجه ما لا نحب وفي وجه ما يجرحنا قبل ما يجرحه، ناسياً أن غيابه سيترك في القلوب حسرةً لا تغفو، ودمعةً في الروح لا تجف؛ فحين يرحل شاعرٌ عن حياتنا المُرّة تودِّع الأرض جنةً كانت تزهر بروحه التي ارتفعت لتمسي نجمةً في السماء تطل على جراحنا من بعيد، وتدعو لنا بالرحمة قبل أن ندعو لها. تحتضن آلامنا المزمنة وتضيف لها ألماً جديداً خلقه هذا الرحيل.
سميح القاسم، نسيَ أن يزيح من أعيننا صورة وجهه الطفولي، وإيماءة يده الغاضبة، ونبرة صوته الصلبة، وكأنه كان مُتَيَقِّناً أننا لن نودّعه؛ إذ سنكون على موعدٍ معه في كل كلمة حقٍ، وفي كل قصيدةٍ تحمل في طياتها مقاومةً وفي كل شعرٍ يأخذنا للدهشة.
الشعراء الذين يشبهون درويش والقاسم لا يموتون، ولا يهرمون، ولا يغيبون... هم حاضرون على الدوام مادام هنالك مقاومة ومادام هنالك حياة.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4366 - الأربعاء 20 أغسطس 2014م الموافق 24 شوال 1435هـ
خوش
رحمه الله الشاعر شاعر المقاومه ذهب ولاكنه باقى فى القلوب والذاكرة
رحمة الله على الكلمه الحقه
رحمة الله عليه والله يسخر غيرة من الشعراء لنصرة القضيه الفلسطينيه وقضايا العربيه