أكثر من 5 عقود مرّت على شغف سيد محمد رضا قاهري، بعالم المخطوطات والعملات الذهبية والفضية القديمة التي يعود بعضها إلى ما قبل الإسلام بقرون، وتلك التي تعود إلى العصور الإسلامية المختلفة، أقدمها دنانير تعود إلى العام 113 للهجرة (731م)، فترة الحكم الأموي، ودنانير تعود إلى العام 160 للهجرة (776م)، فترة الحكم العباسي، وخصوصاً في عهد الخليفة المهدي. بدأ ذلك الشغف بالاقتناء، شراء، ومع تراكم المقتنيات على تنوعها، صار يتّجر فيها، وأصبح منذ سنوات طويلة، مقصداً للوسطاء من أصقاع مختلفة، من بينهم الذين يبحثون عن النادر لديه. معظم الوسطاء من اللبنانيين رفقة غربيين يبحثون عن الفرص أنّى كانت في العالم. وصيت قاهري يقودهم إليه. في سكنه المتواضع، حيث يقيم في شقة وهو في الثمانين من عمره، التقيناه أمس الثلثاء (19 أغسطس/ آب 2014)، معيّة ابنه. المكان يكتظ بالصناديق والحقائب التي يحتفظ فيها بشغفه وثروته في الوقت نفسه.

لم يكن الحوار مُعدّاً له؛ خلا الاطّلاع على اهتمامه وجانب مما يقتنه. لم ينتظر أن نبادله في السؤال. تركناه على عفويته يسرد جانباً من تفاصيل الشغف الذي يحياه، والبشر الذين تعاملوا معه من تجّار ووجهاء.

بدأ حديثه حول مبادرته إنشاء متحف أهلي، يضم بعضاً من مقتنياته، ولكن على جهة رسمية ما تبني ذلك. لكل ثمنه. هذه الثروة ما لم تتمسك بها جهة رسمية بتقييمها التقييم الصحيح، شراء لها، فستتوزع على أطراف ستدفع ثمنها. يحدث ذلك بعمليات البيع وإن كانت متقطعة.

وفيما يتعلق بالمخطوطات والكتب التي يعود بعضها إلى أكثر من قرنين، كان من المفترض أن يضمها أحد المراكز الثقافية الرسمية، وقدّرت قيمة ما يمكن أن يحوزه المركز بـ 200 ألف دينار، لكن المسئولين عنه اعتذروا لعدم توافر موازنة للشراء بذلك الرقم!

المشاركة في المعارض

شارك قاهري في عدد من المعارض التي تقام في المنطقة من بينها معارض في قطر وعُمان، تضم مخطوطات وعملات وكتباً. في تلك المعارض يروج بيع بعض مقتنياته، وتتم دعوته إلى بعض المعارض؛ إلا أنه مع تقدمه في السن يعتذر عن المشاركة في بعضها.

متحف قُم

متحف قم في الجمهورية الإسلامية الإيرانية أصدر كتاباً تضمّن المخطوطات التي اقتناها من سيد محمد قاهري. في الكتاب صور عنها، ويحوي وثائق تعود إلى ما قبل 150 - 200 سنة، وتحصّل قاهري على مبلغ وصل وقتها قبل سنوات إلى 60 ألف دولار. الوثائق تعود إلى فترة السلطنة العثمانية، وهي عبارة عن أوقاف وعقود بيع سورية تعود إلى تلك الحقبة، وهي تعكس - أي الأوقاف والعقود - التعدد والتنوع بحسب المذاهب الإسلامية الأربعة السائدة هناك: المالكي والشافعي والحنبلي والحنفي.

ومن بين مقتنيات قاهري طوابع بريدية أصلية تعود إلى العام 1870، وأغلبها من الهند، إضافة إلى ما أسماه طوابع مالية، بعضها وُسِم باللغة الفارسية، ونسخ أخرى مطابقة وُسِم باللغة الإنجليزية. يضاف إلى ذلك أوراق ومحاضر وعقود أصلية، موجهة إلى المحاكم في الهند. يقول قاهري: لم يكن الناس مستوعبين لماذا أشتري مستندات أصلية لمحاضر وعقود كتلك؟ أنا بطبيعة الحس والخبرة التي اكتسبتها أعلم أن لكل ذلك قيمته كلما مر عليه الزمن. قيمته في ذلك. بعض العروض لشرائها رفضته لأنه لم يكن يساوي قيمتها الحقيقية.

لا تضع بيضك كله

في سلّة واحدة

والكلام لقاهري الذي لم ينتظر أسئلة كي يشرّق ويغرّب في سرد اهتماماته «عليك ألاّ تضع بيضك في سلّة واحدة»، تلك حقيقة أنا أتبعها. جزء كبير من المقتنيات التي أملكها وزّعتها على أكثر من موقع ومكان. لا أحد يضمن الظروف، ولا أحد يضمن ألاّ يتعرض إلى سوء يصحو معه وقد خسر كل ما يملك، حين يكون في سلّة واحدة. ربما أكثر ما جعل تلك المقولة حاضرة وتشكل جرساً لتنبيهه أنه يعيش لوحده في كثير من الأحيان. وجوده مع كل ذلك التاريخ يشعره بنوع من الاستقرار والأمان. يبدو أنه لن يكون كذلك حين ينأى عنه.

«الحرامية»

بادرته بالسؤال: مع كل هذا الكم والتنوع من المقتنيات، لماذا لا تختصر الطريق، للحصول على مبالغ وأرقام قياسية ببيعها وعرضها على دور مزادات كبرى. الرجل لديه تجربة مع إحداهما، لم يتردد بالقول: «هؤلاء حرامية!». كيف؟ سيأتونك ويعددون لك أطرافاً في عملية البيع والشراء، ولكل حصته، لتصل حصتك في نهاية المطاف إلى رقم هزيل ومضحك. أفضّل أن أبيعها بالطريقة التي أنا عليها، من خلال العلاقات، والصيت الذي أتمتع به.

أعلى الأرقام

من بين المقتنيات التي سجّلت أرقاماً كبيرة بالنسبة له، هو بيعه «صحيح البخاري» ضمن نسخة مخطوطة، على الباحث وخبير الاقتصاد الإسلامي الشيخ نظام يعقوبي؛ ووصلت قيمته إلى 28 ألف دينار.

تأتي بعدها «شجرة عائلة آل سعود وآل الشيخ»، ولا يوجد منها إلا 5 نسخ، واحدة عنده، وكان قد اشتراها من أحد الوجهاء من أصل سعودي، وبيعت إلى جهة رسمية سعودية بمبلغ وصل إلى 18 ألف دينار (180 ألف ريال).

المقتنون من الوجهاء وغيرهم

يتذكّر قاهري عدداً من الشخصيات التي تحرص على جمع المقتنيات، من بينها كما أسلفنا سابقاً، نظام يعقوبي، جواد سالم العريض، عبدالله حسن سيف، أكرم مكناس، أحمد كانو، الشيخ عبدالمحسن العصفور، وغيرهم.

قطع فنية من تبريز

للسجاد ضمن القطع الصغيرة، والجدارية منها خصوصاً، حضور في مقتنيات قاهري، حيث يمتلك ثلاث قطع نادرة، تتميز باشتغال دقيق ومتقن، سعرها ضمن المعدّل المتوسط والذي يتوافر لكثيرين، في حدود 1500 دينار، وقد تهبط أسعارها اليوم نظراً إلى الركود الذي انتاب كثيراً من القطاعات الاقتصادية، وعالم المقتنيات لا ينفصل عن حركة السوق، وخصوصاً في فترات الركود، والقلاقل.

الكتب والمخطوطات

من بين المخطوطات والكتب التي يقتنيها قاهري، مخطوط للشيخ الرئيس ابن سينا «المحاكاة في شرح الإرشادات»، إلا أن أكثر ما حرص على الكلام عنه، هو مُؤلف باللغة الفارسية ضمن نسخة مطبوعة يضم أسماء وصور ذريّة رجل الدّين عبدالله الموسوي البلادي، نسبة إلى البلاد القديم في مملكة البحرين، وقد كان يطلع بمهام ومسئوليات كبرى في عهد ناصر الدّين شاه القاجاري (16 يوليو/ تموز 1831 - 1 مايو/ أيار 1896) والذي امتدّت فترة حكمه لما يقارب الخمسين عاماً حتى اغتياله في الأول من مايو 1896. وليس جديداً القول، بأن عائلات وأُسَراً علمية كثيرة هاجرت إما اختيارياً لطلب العلم؛ وإما بفعل قلاقل وأحداث عاشتها البحرين قبل قرون.

أما حفيده عبدالله بن أبي القاسم بن عبدالله الموسوي البلادي البهبهاني البوشهري، فكانت ولادته بمدينة النجف سنة 1291 للهجرة (1874م) وقد أقام في بهبهان ودرس في بوشهر وتوفي بها. وبالإضافة إلى الدراسة التقليدية الدينية (الحوزوية)، تعلم البلادي الحفيد اللغة الإنجليزية والطب وعلم النجوم والكيمياء، ونال درجة الاجتهاد سنة 1324 للهجرة (1906م). البلادي الحفيد كان أحد المساهمين الفاعلين في الثورة الدستورية الإيرانية أو ما يعرف بالمشروطية، في عهد مظفر الدّين شاه، والتي حدثت بين عامي 1905 و1907؛ إذ تم على إثرها إنشاء نظام ملكي دستوري في عهده، وكان من المجاهدين في الحرب الأولى. قام ضد الانجليز ونجا بنفسه إلى شيراز والتحق بالثوار، وبعد انتهاء الحرب عاد إلى بوشهر وتوفي بها.

ثروة من المخطوطات

قائمة المخطوطات التي بحوزته، ويعرضها للبيع تصل إلى أكثر من 151 مخطوطاً، من بينها: شرح على عقائد عمر نسفى «جدليات مع المعتزلة والخوارج في القواعد الإسلامية في ما وراء النهر، كتبه عبدالرحمن بن إسحق البرزيدي سنة 811 للهجرة (1408م)، وفيه شروحات وحواشٍ من علماء آخرين، ومصنّف الشيخ الإمام أبومحمد قسيم بن علي بن عثمان الحريري 1151 للهجرة (1738م)، بخط مغربي، والصحيفة السجادية كاملة، وفيها ملحق من أدعية للإمام زين العابدين (ع)، ويتبين من الكتابة أنه يرجع إلى القرن العاشر، كتاب في القواعد العربية، مكتوب في القرن التاسع الهجري، وفيه حواشٍ من مجموعة من العلماء، وكتاب في تفسير اللغة والنحو، مكتوب في القرن العاشر الهجري، كتاب في دستور العمل الديني، مكتوب في القرن العاشر الهجري، كتاب في المنطق، مكتوب في القرن العاشر الهجري، كتاب في علم الكلام، ويتبين من طريقة الكتابة أنه مكتوب في القرن العاشر الهجري، كتاب في العمليات والمعاملات، لمحمد تقي التبريزي 1076 للهجرة (1665م)، كتاب الدعاء (أصل)، كتبه أحمد بن فهد في العام 801 للهجرة (1398م)، رسالة في الفتوحات والغزوات، مكتوب في القرن الحادي عشر الهجري، ويبدو أنه كتب في أذربيجان.

قائمة العملات

تغلب الدنانير الذهبية على مجموعة قاهري، تلك التي تبدأ بالدينار العباسي لفترات مختلفة في الدولة العباسية أقدمها فترة المهدي 161 للهجرة (777م)، ومن بينها فترة الرشيد والمأمون والأمين، ودينار فترة ذي الرياستين ويعود إلى 201 للهجرة، وهو نادر جداً، وأخرى لفترة القائم بأمر الله ملكشاه بن محمد 465 للهجرة (1072 م)، وطغرل بيك.

سلة العملات تلك تسبق الفترة الإسلامية، وخصوصاً الفضية منها، تبدأ من الإسكندر إلى ما بعده ممن حكم اليونان والهند، وفترة الفرس وغيرها.

لا يريد قاهري للحديث أن ينتهي، يأنس بالذين لديهم اهتمام في هذا المجال، ويجد في اهتمام الصحافة إنعاشاً وإخراجاً له من عزلته، وإن ألِفها. يمكنك أن تقضي النهار معه، عارضاً مجموعة، وحين تنتهي يومئ لابنه بإرجاعها وجلب أخرى.

كأنه مسكون بالتاريخ وبقوته، وهو منتم لحاضر له ما له وعليه ما عليه.