العدد 4361 - الجمعة 15 أغسطس 2014م الموافق 19 شوال 1435هـ

الفنانة المكسيكية فريدا كالو: صاحبة «السيلفي» الأكثر بشاعة... هزمها الموت أم هزمته؟

للفنانة المكسيكية فريدا كالو ألق خاص. تثير إعجابك حيناً، واستغرابك الذي قد يصل حد الاستنكار حيناً آخر. ربما لما قدمته من عطاء فني مختلف عن سواه ومختلف عليه، في مقابل عمر قصير لم يتعدَّ 47 عاماً عاشته بكم هائل من الوجع والمعاناة. صادفت ذكرى وفاتها التاسعة والستون منتصف شهر يوليو/ تموز الماضي (توفيت العام 1945). وربما تمتلك فريدا الألق لأنها المتمردة على الدوام، المصرة على تحقيق الطموح مهما بدا ذلك مستحيلاً. ألهمت الكثيرين باختلاف مواقفهم من الحياة. أكثر ما تشتهر به من أعمال هو تلك البورتريهات الشخصية التي جسدت من خلالها معاناتها الشخصية. رسمت فيها نفسها فيما كانت مستلقية في سريرها والجبس يغطي كامل جسدها وذلك بعد تعرضها لحادث سير. تشبه تلك البورتريهات ما يطلق عليه «السيلفي» اليوم. لكن سيلفي فريدا مختلف تماماً.

لم تُعرف فريدا بشكل واسع أثناء حياتها، وعلى رغم اقتناء متحف اللوفر لإحدى لوحاتها العام 1939 (The Frame) وهي أول فنانة مكسيكية من فناني القرن العشرين يتم اقتناء لوحاتها من قبل متحف عالمي شهير بحجم اللوفر. في المكسيك لم تعرف إلا بزوجة دييغو ريفيرا، الفنان الذي ساهمت أعماله في تأسيس حركة الجداريات المكسيكية. لم يتم الاحتفاء بها في بلادها إلا بعد وفاتها بعقود. أول معرض شخصي أقيم لها في الاحتفالية المئة لميلادها.

لكن الوضع اختلف بعد ذلك، أعمالها أصبحت أفضل أعمال احتفت بالتراث المكسيكي الوطني الأصيل. ليس الفنانون وحسب من يحتفون بها، لكن المجموعات النسوية تجدها خير نموذج للمرأة التي تحدت كل المنوعات وتمردت على كل القوانين.

لأكثر من سبب بدت أهمية كالو أكبر بعد وفاتها، لكن لعل أهمها تبني السينما قصتها والترويج لها عبر أفلام عدة كان أهمها فيلم Frida الذي أخرجته دولي تيمور العام 2002 وروج له اختيار ممثلة شهيرة هي سلمي حايك للقيام بدور فريدا.

الفيلم قدم حياة فريدا الصاخبة والمؤثرة عبر نص جميل ومعالجة فنية راقية.

سلمى حايك قدمت واحداً من أجمل أدوارها في الفيلم، تفوقت على نفسها في دور معقد ومركب. تمكنت ببراعة من ترجمة الانفعالات الداخلية لشخصية فريدا المقهورة عاطفياً والمدمرة نفسياً وجسدياً. في الوقت ذاته برعت سلمى في أن تقنع المشاهد بإيجابية وقوة شخصية فريدا رغم كل المرارة المحيطة بها، فهذه الفتاة المقهورة جسدياً ونفسياً و «زوجياً» دافعت عن كيانها وقاومت كل ما حولها لترتقي بإبداعها.

الفيلم قدم ملحمة ذاتية مؤثرة ومذهلة بصرياً عن فنانة بدت أكبر من المعاناة، سعت لتحقيق حلمها في الوقت الذي كانت تتلقى فيه صفعات من القدر.

التجارب السينمائية الأخرى التي قدمت فريدا حققت أيضاً نجاحاً لا بأس به، فيلم المخرج بول لوديك الذي قدمه العام 1983 تحت عنوان Frida, naturaleza viva حقق نجاحاً كبيراً وجعل اسم الفنانة أوفيليا ميدينا التي قدمت دور فريدا فيه يقترن باسم فريدا طوال حياتها.

فريدا المتمردة

منذ صغرها تمردت فريدا على واقعها، ربما كانت البدايات في طفولتها حين اندلعت الثورة في بلادها فيما كانت في عامها الثالث. أصرت على تغيير تاريخ ميلادها من 1907 إلى 1910 وهو عام انطلاق الثورة. تريد فريدا أن يكون ميلادها متزامناً مع الولادة الجديدة لمدينتها.

وكما تمردت على تاريخ ولادتها، تمردت أيضاً على ما وجدته من عيوب في شكلها أولاً ثم في جسدها ثانياً، أبرزت عيوب وجهها في لوحاتها بدلاً من أن تخفيها، بدءاً من كثافة حاجبيها، حتى الشعر الذي ينبت فوق شفتها العليا. وقبل الفن كانت قد تحايلت على تشوه أصاب ساقها الأيمن جراء إعاقة تسبب فيها شلل الأطفال فأخفته بجوارب صوفية ارتدتها طوال الوقت.

شلل الأطفال كان بداية معاناتها، وربما بداية تمردها، أمام فريدا معاناة جسدية أكبر والشلل لا شيء يذكر أمام ما فعله بها حادث باص تعرضت له العام 1925. حطم الحادث جسدها، تسبب لها بكسر في عمودها الفقري، وفي ترقوتها، وأضلاعها وحوضها، عدا عن أحد عشر كسراً في ساقها الأيمن، وخلع قدمها اليمني وسحقها، وخلع كتفها، وأخيراً اختراق عمود حديد لبطنها ورحمها ما تسبب في حرمانها من الإنجاب.

وبرغم ما تسبب به الحادث لها من آلام جسدية ومعاناة نفسية شديدة، إلا أنه وضع بدايات تشكيل اسمها كفنانة ستصبح اسماً يعتد به لاحقاً وستجد لوحاتها طريقها إلى أميركا وباريس ثم إلى العالم كله. نجت من الموت بأعجوبة لكنها وجدت نفسها مجبرة على التمدد في سريرها، على ظهرها فيما عيناها معلقتان في سقف الغرفة.

الفراغ الطويل والآلام وشل الحركة لتلك المتمردة الصغيرة، زاد معاناتها، أرادت أن تشاهد جسدها، أن تواجه آلامها وهي المتمردة القديمة. البداية ستكون في رؤيتها للبشاعة التي أصبح عليها جسدها. وأتتها فكرة تعليق مرآة ضخمة في السقف أعلى سريرها. استجاب والداها للطلب، فأصبحت فريدا في مواجهة موجعة مع جسدها، لم يكن تجاوزها ممكناً إلا عبر نقلها بالريشة والألوان. القلم والرسومات التي ملأت بها الجبس خففت من شعورها بالإحباط والغضب في أوقات سابقة.

تمردت فريدا على مرضها مرة أخرى، بدأت ترسم جسدها المتعب، الملفوف ببياض بشع. مع الوقت أصبحت رسوماتها تلك بمثابة تقارير مصورة وبورتريهات يومية تجسد قبح معاناتها وشدة آلامها. ملأ الرسم أوقاتها، خفف من معاناتها، وجعلها تكتشف موهبة وشغفاً بالرسم لم يكونا في حسبانها، ففريدا كانت طالبة طب، لم تدرس الفن، ولم تكن معروفة في الأوساط الفنية المكسيكية.

دييغو... الداء والدواء

بعد المرض، لم يكن هناك ما هو أشد إيلاماً لفريدا في حياتها من تجربة زواجها من دييغو ريفيرا العام 1929. كان عمرها 22 عاماً وكان يكبرها بعشرين عاماً. تمردت على والدتها التي رفضت الزواج، تمردت على سمعته السيئة التي سبقته وعلى كل ما تعرفه عن مغامراته النسائية. تزوجته، انفصلا لعام ثم تزوجا ثانية.

كان له تأثير كبير على حياتها وعلى فنها. شجعها حين عرضت عليه اللوحات التي رسمتها أثناء مرضها. أثنى على موهبتها، ومنحها من الاهتمام ما حفزها للمواصلة وما شكلها كفنانة ذات أسلوب فني خاص.

رغم ذلك، لم يمنحها دييغو الإخلاص والأمان الذي تنشده أي امرأة. كان كثير العلاقات. أقامت هي أيضاً علاقاتها، مع الجنسين. تحمّل علاقاتها النسائية فقط، وتحمّلت هي كل شيء إلا أن يقيم علاقة مع شقيقتها الصغرى.

لكنه بعد وفاتها قال إن يوم موتها كان أكثر الأيام مأساوية في حياته، وأنه اكتشف متأخراً أن الجزء الأفضل من حياته كان حبه لها.

سريالية واقعية

البورتريهات الشخصية التي قدمتها فريدا لنفسها شكلت الجزء الأكبر من أعمالها. جاءت أولاً مصورة لها أثناء مرضها ثم مستقاة من تجاربها الشخصية في الزواج، والإجهاض، والعمليات الكثيرة التي أجريت لها بعد الحادث.

قدمت 140 لوحة زيتية وعشرات الرسومات والأعمال. 55 عملاً من بين اللوحات كانت بورتريهات شخصية صورت فيها جراحها عبر تقاسيم وجهها القاسية بحاجبين معقودين أو بشعر غزير أعلى شفتيها المزمومتين على الدوام أو عبر جسدها المثخن بالجراح. تبالغ في إظهار عيوب وجهها وجسدها لتعبر عن عمق آلامها وشدة معاناتها.

توصف أعمالها بالسوريالية، أندريه بريتون الذي يدأ الحركة السريالية في الفن يصف فنها بأنه «شريط حول قنبلة»، لكن فريدا تقول «أرسم واقعي». لوحاتها وإن كانت سريالية فهي سهلة الفهم، واقعية، توثيقية، تقريرية.

اهتمت فريدا بتصوير ثقافتها المكسيكية وثقافة الهنود الحمر التي تنحدر منها من جهة والدتها، ما جعل البعض يصف أعمالها بالساذجة فنياً أو بتصنيفها ضمن الفن الشعبي. بدا ذلك واضحاً في استخدامها للألوان البراقة، وللأسلوب البدائي والرمزية المثيرة. تضمنت لوحاتها بعض الرموز الدينية والثقافية المكسيكية، لكن كل تلك الرموز تقدم في لوحات سريالية وربما بمعان مختلفة، خاصة بفريدا.

فريدا وتروتسكي

ليس غريباً أن يكون لفريدا المتمردة اهتماماتها ونشاطاتها السياسية التي ألقتها في السجن في وقت ما. كانت ناشطة شيوعية. تعاطفت بشدة مع مؤسس المذهب الزعيم التروتسكي الشيوعي ليون تروتسكي، وأصبحت وزوجها صديقين له. استضافاه في منزلهما حين لجأ إلى المكسيك، هارباً من حكم بالإعدام أقره ستالين.

لم يأتِ تمرد فريدا في استضافتها للزعيم الهارب من بطش ستالين وحسب، بل في إقامتها لعلاقة معه، نتج عن اكتشافها انتقاله وزوجته من منزل فريدا إلى منزل آخر قريب، ثم اغتياله فيه العام 1940. قبل وفاته بعام تمردت فريدا على صداقتها معه وأصبحت من أشد معارضيه منقلبة إلى معسكر ستالين.

السنوات الأخيرة

أخيراً تمردت فريدا على حياتها، توفيت بانصمام رئوي، لكنها كتبت في مذكراتها قبل وفاتها بأيام «أتمنى أن يكون خروجي من الدنيا ممتعاً وأتمنى ألا أعود إليها ثانية». تلك العبارة أثارت الشكوك في سبب وفاتها، قد تكون جرعة مفرطة، مقصودة أو غير مقصودة، هي سبب الوفاة الحقيقي. كانت مريضة جداً خلال عامها الأخير على أية حال.

طلبت فريدا أن تحرق جثتها، يحتفظ برمادها اليوم في جرة تعود إلى العصر القبل كولمبي، موجودة في منزلها الأزرق الذي عاشت فيه مع دييغو، في مدينة مكسيكو، والذي تحول في العام 1958 إلى متحف يضم عدداً من أعمالها الفنية ومقتنياتها.

يذكر بعض من حضروا الحرق أن الجثة بعد أن اشتعلت بها النيران انتصبت واقفة، بدت فريدا مبتسمة تكز على أسنانها.

هل انتصرت فريدا في معركتها ضد الموت، هل تمردت عليه أم هزمها فأسلمت له صاغرة؟.

العدد 4361 - الجمعة 15 أغسطس 2014م الموافق 19 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً