العدد 4361 - الجمعة 15 أغسطس 2014م الموافق 19 شوال 1435هـ

من الهويَّة والكونية... إلى «بروب» وجذور الحكاية العجائبية

«الثقافة الشعبية» في عددها السادس والعشرين...

ينظر الفيلسوف الماركسي الإيطالي، أنطونيو غرامشي، المولود في بلدة آليس بجزيرة ساردينيا الإيطالية العام 1891، وتوفي في الثامن من نوفمبر/ تشرين الثاني؛ حيث أودع السجن بناء على أمر من موسوليني وأمضى العشر سنوات الأخيرة من عمره قبل أن يموت تحت التعذيب في 26 أبريل/ نيسان 1937، إلى الفلكلور باعتباره «تصوراً للعالم وللحياة». ولعل من بين أهم ما كتب وتمت إضاءته في هذا المجال ما جاء في مقالة محمد حسن عبدالحافظ «مسألة الثقافة الشعبية بين أنطونيو غرامشي وبيير بورديو»، التي تناول فيها ما أسماها بالأفكار الذهبية لغرامشي تلك المتعلّقة بالثقافة الشعبية؛ إذ يرى غرامشي بأن «الفولكلور متعدّد، وشديد التنوع، يقف في تعارض وتناقض ومعارضة ضد التصوّرات الرسمية، وضد تصوّرات الطبقات الحاكمة، وضد الدولة؛ أي أن الفولكلور يتناقض مع المجتمع الرسمي عموماً. من هنا، يمكن فهم الفولكلور باعتباره انعكاساً لشروط حياة الشعب الثقافية».

ذلك التعارض ينشأ عن تحوّلات تطرأ على المجتمعات تمسّ بنيتها الفوقية الظاهرة، على حساب بنيتها الفكرية والثقافية والمعرفية الأصيلة؛ ما يجعل ذلك الجزء من الثقافة عرضة للنهب في صور متعددة. النهب بمعنى تهميشها وتحجيم مساحة وفضاء تحرّكها.

في هذا الإطار، يخرج العدد السادس والعشرون من مجلة «الثقافة الشعبية» في مشروع منْهجة وتعميق مفاهيم وملامح تلك الثقافة التي هي الوجه الآخر من ثقافة مؤسِسة ومهيمنة، وجدت تمهيدات وبيئات للإقصاء والتهميش على أقل تقدير. ففي الوقت الذي ينأى هذا الجزء من العالم بنفسه عن مثل تلك الثقافة وأشكالها، وعدم منحها الاهتمام والمساحة اللائقة بها، في ظل التحوّلات التي طرأت على المجتمعات العربية والإسلامية، والعالم الثالث عموماً، نجد في الجانب المقابل لهذا العالم، حرصاً من العالم المتقدم على منح تلك الثقافة اهتماماً كبيراً وخاصاً، على رغم أن تركيبة بعض أجزاء من ذلك العالم تكاد تكون بمنأى عنها؛ إلا في المجتمعات الطارئة ببشر طارئين على المكان، أولئك الذين شكّلوا أكثريته بفعل الهجرات المتعاقبة، وكان لزاماً الالتفات إلى ما تبقّى من ثقافة ومشغولات وإرث وملامح لتلك الثقافة الشعبية مازالت بعض المجاميع المتبقية من أهل الأرض على ارتباط بها، فيذهب الاهتمام الأكبر في الصون الظاهر لها في كثير من الأحيان.

«الثقافة الشعبية» التي تصدر بالتعاون مع المنظمة الدولية للفن الشعبي (IOV)، تصدّر عددها افتتاحية لرئيس التحرير الشاعر والباحث البحريني علي عبدالله خليفة، تناول فيها محاولات وجهود باحثين غربيين زارا البحرين للوقوف والتعرف على الفنون الغنائية في المنطقة، البحرين والكويت وقطر ودولة الإمارات العربية المتحدة وسلطنة عمان، استكمالاً لأبحاث ودراسات معمّقة هي مشروع حياتهما العلمية الأكاديمية.

الأول كان البروفيسور بول روفسنغ أولسن (1922-1982)، أحد أبرز علماء الموسيقى التقليدية وعضو الجمعية الدنماركية للموسيقى الشعبية، والذي ضمّن خلاصة اطلاعه ومعرفته بالموسيقى التقليدية للمنطقة كتابه الموسوم بـ «الموسيقى التقليدية في الخليج العربي»، والآخر رئيس قسم الدراسات العربية والإسلامية بكلية الآداب بجامعة جنيف، البروفيسور سايمون جارجي، وهو الآخر مهتم بجمع ودراسة الأغاني الشعبية. وفي محاولات دؤوبة - بحسب ما جاء في المقالة الافتتاحية لرئيس التحرير - أثمرت الجهود عن شراء ملكية الترجمة مع المطويات لأحد الباحثين، فيما هي مستمرة للوصول إلى الاتفاق نفسه مع الباحث جارجي.

من جانبه، تناول القاص والمترجم عبدالقادر عقيل في مقال له «الحكاية الشعبية في عصر الإنترنت»، وتضمّن المقال تساؤلاً مفاده: هل بالإمكان الربط بين الانفجار المعرفي والثورة التكنولوجية والعلمية وبين الحكاية الشعبية؟ ما لم يفصّل فيه عقيل أن الانفجار المعرفي والثورة التكنولوجية والعلمية تلك، سحبت البساط عن المباشرة في سرد الحكاية، بما تتضمنه تلك المباشرة في السرد من حميمية ودفء وتجانس وانسجام وتوجّه إلى الراوي أو السارد، وما ذكره هو أن «الحكاية الشعبية كانت تعتمد على الإلقاء والسرد وليس على التدوين، فالحكاية ليس لها مؤلف معروف، ويكاد يجمع الباحثون على أن أصل الرواية هو الأساطير والحكايات الشعبية». مشيراً إلى أن «أقدم رواية في العالم وهي رواية (الحمار الذهبي أو التحولات)، ما هي إلا حكايات متنوعة جمعها الكاتب اللاتيني لوكيوس أبوليوس (125 ق.م)، وكتبها في أحد عشر جزءاً».

«ليلة الحنّاء... موروث العادات ووحي الأساطير»، كتبته بسمة قائد البنّاء، تتبّعت فيه ارتباطه بجملة من العادات والطقوس في حياة والشعوب، «وهم في ممارستها لا يدركون منشأها وما تحمله هذه النبتة من دلالات ورموز تتداخل فيها الطقوس السحرية مع عوالم الأساطير، بالإضافة إلى التعاليم الدينية».

وتعرّج البنّاء على ارتباط «ليلة الحنّاء» بالأسطورة الفرعونية في زمن (إيزيس) و(أوزوريس)؛ حيث عمد إله الشر (ست) إلى قتل أوزوريس طمعاً في الملْك وغيرة منه، فلم تستسلم إيزيس وتمكنت من جمع أشلاء زوجها بعد أن مزّقها (ست) إلى 42 قطعة وزرعها في أقاليم مصر، «وكانت كلما جمعت قطعة من جسده امتلأت يدها بالدماء حتى اصطبغت يداها تماماً باللون الأحمر، فاعتبر ذلك رمزاً لوفاء الزوجة وحبها الأبدي».

وفي العدد نفسه، تكتب شيماء طالب «ما الذي يبوح به الريحان؟»، تتناوله ضمن ارتباطه بالطقوس والمناسبات، والوعي الشعبي، مستهلة الموضوع بانتماء تلك النبتة إلى الأعشاب الورقية العطرية، وموطنه الأصلي في الهند، والمناخ الذي ينمو فيه.

ويرتبط الريحان بالرموز المتعددة للثقافة الشعبية في تراث شبه الجزيرة العربية، ولم يخلُ بلد في المنطقة من أهازيج وأغنيات شعبية تتغنّى به.

الكاتب اللبناني سالم المعوش، تناول في دراسته المطولة «الثقافة الشعبية العربية بين الهوية والكونية»، إشكالية الثقافة الشعبية، والوصول إلى معالمها، بما تجعلها تمضي في طريقين واضحين: مادي وروحي، متلازمين حيناً ومفترقين حيناً آخر. ويتناول العموش بعض مظاهر إشكالية تلك الثقافة، من خلال مداخلة الكاتب عبدالوهاب عزام في خلاصتها التي تصل إلى أن «النظرة إلى التطور والتقدم تعير كبير أهمية إلى التجديد عبر نافذتين أساسيتين: تجديد العقل والمنهج والرؤية والأدوات والمستلزمات كلها أولاً، والتجديد ضمن الأرض والقيم والتراث متفاعلة مع التراث الإنساني باتجاه الإفادة البشرية ثانياً. عند ذلك يمكن أن تصبح الثقافة الشعبية العربية في دائرة وعينا لا وهماً بل حقيقة». وفي القسم الثاني من دراسته يتناول العموش «الثقافة الشعبية والهوية»، متخذاً معالجته عبر عناوين توزّعت على: الهوية ووحدة المنطلق، الهوية والعولمة، حركتا العولمة، ويتناول في العنوان الرابع، ابتداء من قيام «العولمة بحركتين متناقضتين: الأولى بإرادتها، حيث من جهة تشجّع الانقسامات القومية والدينية والتراثية والثقافية والعرقية والحضارية، باسم الديمقراطية وحقوق الإنسان»، مؤكدة «صراع الثقافات في مسعى إلى تفتيت الكيانات الكبيرة القائمة على أساس التعدّد الثقافي والقومي والديني، ومن جهة ثانية، تعمل على توحيد العالم على ثقافة واحدة».

وفي العنوان الخامس يتناول العموش «إشكالية الوجود والاستمرار» لتلك الثقافة، والمجال والحركة والتقاطع، في العنوان السادس من دراسته، مشيراً إلى أن العربي «قدّم أنموذجاً راقياً في التعامل مع موضوع الثقافة الشعبية والتراث والهوية وصنعها جميعاً، يوم كان القرار متخذاً لبناء الدولة العربية»، هذا الأمر يكاد يكون لا مكان له بالمعاينة النظرية والواقع القائم اليوم، بتفتت الدولة العربية وغيابه أصلاً كمفهوم؛ عدا وجوده في الواقع الذي نشهد؛ ما كان لذلك أثره في تلاشي واضمحلال وتهتك بنية الثقافة تلك ضمن مواضع ومواقع ومفاهيم طالها ذلك التفتت.

تضمّن العدد مقالة مطولة ليعقوب يوسف المحرقي، جاءت بعنوان «فلاديمير بروب ومنهجية دراسة الثقافة الشعبية»، منوهاً إلى أن بروب بعد أن وضع الأسس النظرية الدقيقة لدراسة الحكاية، توجّه إلى اكتشاف جذورها التاريخية، وذلك من خلال درسته القيمة «الجذور التاريخية للحكاية العجائبية» والتي صدرت في كتاب العام 1946، ونشرت ترجمته الفرنسة الأولى العام 1983، وهي التي اعتمدها المحرقي في التعريف بالمنحى التاريخي لمشروع بروب في دراسته الحكاية.

كما تضمّن العدد «الدلالات السردية في الحكاية الشعبية» لانتصار البنّاء، و «الشوق والحنين إلى الروضة النبوية في الشعر الشعبي الجزائري» لعبداللطيف حني، و «ظاهر الحسد» لعبدالكريم الحشّاش، و «إطلالة على ألعاب الأطفال بالمغرب»، لرشيد العفاقي، و «العرس البدوي الأردني والعلاقات والرموز» لهيثم سرحان، و «رقصة العلاوي، الدبكة المغربية» لزبير مهداد، و «اللهجة الموسيقية في الأغنية الشعبية (الصوت) نموذجاً، فاطمة زكري، و «الدفوف عصب الإيقاعات الشعبية» لمحمد محمود فايد، و «مدخل لتاريخ العمارة الأمازيغية» لمحمد سعد الشيباني، و «مواقد إعداد الخبز الطينية (الأفران)، ضيف الله عبيدات، و «الثقافة الشعبية المصرية... دراسات ميدانية في المناطق الثقافية» لأحلام أبوزيد.

العدد زخر بقراءات جادّة ومتخصصة غلب على بعضها الكثير من التشعّب والإسهاب.

العدد 4361 - الجمعة 15 أغسطس 2014م الموافق 19 شوال 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً