لا ينفك الكاتب والباحث البحريني المتميز خالد البسّام عن الحفر في الذاكرة البحرينية، اشتغالاً لا يعرف الكلل، باذلاً في ذلك من وقته وحتى ماله، في تطلب السفر والبحث عن المصادر والمخطوطات في أصقاع الدنيا. وهو في ذلك الاشتغال ينتمي إلى وعي متأصّل وإدراك بأن تحصين الذاكرة وعدم تركها في مهب النسيان، واحد من الطرق التي فيها تأكيد الوجود وتثبيته.
في هذا السياق، لم يكُ اشتغاله ضرباً من حرصه على تراكم السيرة لديه - سيرته الشخصية - فيما أنجز وينجز، بقدر ما هو اشتغال على سيرة المكان والبشر والتاريخ، بكل ما يضج فيه من إنجاز وفرح وخيبات ومواجهة وتقههر في كثير من الحالات. لكن المضيء من تلك السيرة هو ما يدفعه إلى الاستماتة في هذه الطريق.
من ضمن إصدارات البسام، يظل كتابه «عبدالعزيز الشملان في سانت هيلانه 1956 - 1961... يوميات المنفى»، واحداً من الكتب التي ترصد الحراك الوطني بشخصياته التي كانت مؤثرة في تاريخ مفصلي وحاسم للبلد.
والشملان الذي قضى ردحاً من حياته متنقلاً بين المنافي، بحسب البسّام «كان المنفى في حياته جزءاً مهماً من خريطة الحياة، فلم يبدأ كغيره من زعماء ووطنيي العالم منافيهم في مقتبل شبابهم أو بدايات شيخوختهم، فقد اختاره المنفى طفلاً صغيراً في البداية».
يتقصى البسام تلك البدايات من حياة الشملان، منذ العشرينيات من القرن الماضي، في اضطراره لترك المدرسة «واللحاق بأبيه (سعد) الذي قررت السلطات البريطانية الحاكمة في البحرين آنذاك نفيه إلى الهند»، وقدّر للطفل أن يبقى مع أبيه هناك في منفاه، وهو لم يتجاوز الثانية عشرة من عمره.
بعد سنوات قليلة يعود الصبي إلى بلاده، منتظماً في الدراسة بمدرسة الهداية الخليفية بالمحرق، وقد اكتسب خبرة حياتية ناضجة في تجربة المنفى المبكر، ويقوده نبوغه المبكر لينضم إلى أول بعثة تعليمية للحكومة وقتها في العام 1928، للدراسة في الجامعة الأميركية في العاصمة اللبنانية (بيروت).
وفي القرار التعسفي بحكم النشاط الذي تمت ممارسته هناك، يتم سحب البعثة من قبل المستشار البريطاني المتحكم وقتها، تشارلز بلجريف، بعودتهم إلى البلاد والعمل كمدرسين.
كان للعاصمة بيروت مخزونها في الحراك السياسي، وانفتاحها على حركات التحرر في العالم. كانت ورشة لا تهدأ لمن تم تسميتهم «مشاغبي العالم». ذلك المخزون كان له تأثير في وعي الشملان موقفاً وتوجهاً وحركة.
والأندية كانت هي المدخل لممارسة العمل السياسي، فترة الثلاثينيات والأربعينيات من القرن الماضي، وما ضجت به البلاد وقتها من أعمال وطنية وخيرية ساهمت في انخراطه شبه اليومي في الحراك، على تعدد أوجهه ومسمياته. كانت فلسطين من المداخل الكبرى في ذلك الحراك والتوجه، بدعم لجانها في نهاية الثلاثينيات وسنوات الأربعينيات.
ومع مطلع الخمسينيات، كان البلد والزمن وقتها على موعد مع نضج سياسي توافر للشملان، لتختاره المرحلة ببشرها واحداً من الزعماء السياسيين الذين سيتصدون لقضاياه وتخطيط مساره في ظل واقع سياسي محتقن ومشحون بالاستهداف ومحاولة التمزيق في أكثر من صورة وشاهد وممارسة.
يشير البسّام إلى أنه «مع بداية اندلاع بعض الحوادث الطائفية في البلاد بداية الخمسينيات، راح الشملان ورفاقه، الباكر وغيرهم يحاولون التهدئة ثم الانتقال إلى الدعوة لتوحيد الطائفتين. وأكثر من الدعوة إلى وحدة الطائفتين، راح الزعماء الوطنيون حينها يعدّون لمطالب إصلاحية كان أهل البحرين ينادون بها منذ زمن طويل؛ وخاصة إنشاء مجلس تشريعي منتخب، وإطلاق الحريات وإصلاح التعليم والصحة ووقف تدخل الإنجليز؛ وخاصة المستشار بلجريف في شئون البلاد».
وفي تقصٍ وقراءة للواقع بعد تلك المرحلة بسنوات لا يبدو أن المطالب تغيرت، ولا يبدو أن محاولة جمع الأمة على كلمة سواء، باتحاد مذاهبها، التفاتاً إلى قضاياها المشتركة في الوطن المشترك قد تغيرت. المطالب هي هي، وواقع الصد والدفع والمنع يتكرر في أكثر من صورة ومشهد وممارسة قبل تلك الأحداث بسنوات، وفي ما نشهده من واقع اليوم.
يعرج البسام على الاجتماعات المكثفة للقيادات الوطنية من الطائفتين الكريمتين، للسعي إلى إنشاء حزب سياسي يعمل على الأرض، هو الأول ليس في البلاد فحسب وإنما في منطقة الخليج العربي، بمحاولة إخراج هيئة الاتحاد الوطني إلى النور، لتتصدى للقضايا العالقة، والتي يراد لها أن تكون عالقة ومؤبدة في تأجيلها وغضّ النظر عنها، ليبقى الواقع القائم كما هو.
يشير الكاتب والباحث البسّام إلى أن يوميات عبدالعزيز الشملان، بدأت في منفاه بسانت هيلانه، منذ اليوم الأول لاعتقاله مع رفاقه في البحرين بتاريخ 6 نوفمبر/ تشرين الثاني 1956 في سجن جدا. في ما كتبه تأريخ ووصف لوحشية الاعتقال وعدم قانونيته، والمعاملة، إضافة إلى المحاكمة الصورية في مركز شرطة البديع، والتي أسفرت عن الحكم بالسجن 14 سنة له وللباكر والعليوات، فيما نال إبراهيم فخرو وإبراهيم موسى 10 سنوات سجناً.
تمر اليوميات بعد شهر من مغادرتهم البحرين بتاريخ 28 ديسمبر/ كانون الأول 1956، ووصولهم إليها بتاريخ 28 يناير/ كانون الثاني 1957، اقتباساً من وصف عبدالرحمن الباكر في كتابه «من البحرين إلى المنفى»: «نزلنا البارجة بصحبة هؤلاء، وحين وصلنا إلى الرصيف، شاهدنا جمعاً غفيراً من الناس أكثرهم من نساء وأطفال قد تجمهروا ليشاهدوا المجرمين! الذين قاوموا الأسد البريطاني حتى ضربهم بذيله، وطرح بهم في هذه الجزيرة النائية عقاباً على تصديهم له، ووقوفهم في وجه أطماعه وشره...».
في الجزيرة بدأت معارك مع السلطات البريطانية وإدارة الجزيرة، وحكومة البحرين بأن الظروف التي يعيشونها، وحرمانهم من أبسط متطلباتهم، وصولاً إلى توكيل محامين بريطانيين للدفاع عنهم.
الباكر في كتابه «من البحرين إلى المنفى»، يروي أن الإفراج عنهم تم بتاريخ 13 يونيو/ حزيران 1961 بقوله: «في صبيحة هذا اليوم جلجل صوت الحق في تلك المحكمة، حينما قرأ القاضي إليوت حيثيات الحكم، وقضى بالإفراج عن عبدالعزيز الشملان، وبعد انتهائه من قراءة حيثيات الحكم دوّت القاعة بالتصفيق، وتنفس الناس الصعداء وانهالت عليهم التهاني من الحضور، وفرح جميع سكان مدينة جيمس تون بهذا الحكم العادل...».
يشير البسام إلى أن الشملان عاد من المنفى إلى وطنه في «بداية سبعينيات القرن الماضي، وشارك بفعالية في أول انتخابات ديمقراطية جرت في البحرين للمجلس التأسيسي العام 1972، وانتخب نائباً للرئيس».
من اليوميات نقرأ: «31 مايو 1957: في هذا الصباح زارنا مدير السجن وطلب منا أن نساعد الحراس والطباخ في عملهم في المطبخ والحديقة، فرفضنا رفضاً تاماً، وأخبرناه إننا لن نقوم بأي عمل نؤمر به حتى لو أدى ذلك لإطلاق الرصاص علينا فاكتفى بذلك وانسحب». وأيضاً: «1 مايو/ أيار 1958: عيدنا اليوم (عيد الفطر)، عيد ولا الأعياد!».
تكتنز اليوميات بالكثير من الغصة والألم والحنين والثبات في الوقت نفسه. شخصيات بذلت أقصى ما تستطيعه كي يعيش شعبها بما يليق به كشعب متحضر في وجوده وثقافته وعراقته في التاريخ؛ وإن أدى ذلك أن يكون الثمن باهظاً يتمثل في حرية يتم سلبها، ووطن يتم إقصاؤهم عنه، وتضييق في ذلك الأسر ومهانات كثيرة، إلا أن الطريق إلى تحقيق العزة والكرامة والقيمة والمعنى لوجودهم ووجود شعبهم لابد أن تكون له أثمانه وكُلَفه التي لم يترددوا في بذلها.
العدد 4356 - الأحد 10 أغسطس 2014م الموافق 14 شوال 1435هـ
محمد
يخفقُ التقديرُ على الشكر والتقدير على ظهور الحقائق التي من التأكيد بلامبالغة منار للاجيال التي لاتعرف عن تاريخ وطنهم الوطني الطيب الذي بات ملحاً لمثل هذه المقالات الهامة في نشر الوطنية. تقدير للوسط و الاخ جعفر الجمري