المجازر الوحشية المحاطة بشريعة الغاب في غزة، تؤكد سمات نهج الإبادة الجماعية وتساوي في طبيعتها الجرائم التي ارتكبتها النازية في الحرب العالمية الثانية. والجميع على اختلاف مذاهبهم الفكرية وعقائدهم الدينية وخبراء القانون والسياسة ومدراء الدبلوماسية الدولية المكممة أفواههم، مقتنعون بأن ما نشهده من مجازر ترتقي في مكوناتها إلى مستوى الجرائم الدولية. وقد سبق لمحكمة الجنايات الدولية النظر في محاكمة الأفراد المتهمين بالتورط في ارتكاب هذا النوع من جرائم الحرب، والمتمثلة في جرائم الإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية وجرائم الاعتداء، وإصدار الأحكام بحق مرتكبيها في كوسوفو ورواندا بأفريقيا.
ولطالما توقف الإنسان عند مفارقات التاريخ وقراءة مدلولات وقائع بعض أحداثها ومقاربتها بمدلولات أحداث ملموسة نشهد تداعياتها المأساوية، تجعلنا نتبيّن حقائق التناقض بين حدث تاريخي مثير للجدل بين علماء التاريخ والجغرافية وعلم الأنساب وخبراء القانون والمتبحرين بقضايا الشرائع الانسانية؛ وبين ما نشهده من جريمة بحق الإنسانية التي تجري أحداثها في غزة، دون أن يحرّك المجتمع الدولي ومنظمات حقوق الإنسان الدولية ساكناً للاعتراض على ما يجري من مجازر بشعة، التي يرتكبها دعاة حق حدث تاريخي آخر يجرم من يتجرأ على تكذيبه.
والمفارقة الأهم أن الجماعة المتمسكة بحقها في الحدث التاريخي الغامضة حقائقه والتي قامت الدنيا ولم تقعدها بشأن تعرض طائفتها إلى الاضطهاد العرقي والحرق والقتل والتهجير وانتهاك حقوقها المدنية والسياسية، تستخدم ذات المواصفات والمنهج في حربها المتواترة عملياتها العسكرية ووسائل الحصار والعزل العنصري وسلب الحريات والتجويع والقتل الجماعي للأطفال والشيوخ والنساء والمدنيين الأبرياء والعزل في غزة خصوصاً وفلسطين بشكل عام.
المفارقة الأخرى غير المفهومة وغير المبرّرة، الموقف المتفرج من قبل المجتمع الدولي تجاه ما يجري من أحداث مأساوية ومحارق بشرية على الرغم من تعارضها القطعي مع مبادئ وقواعد الاتفاقيات والمواثيق الدولية والقانون الدولي الإنساني.
بيد أن المفارقة المحزنة وغير القابلة للتفسير والفهم، أننا نعيش حالة تخبط في المواقف وتوجه البعض في دعم ما هو جارٍ من إبادة بحق المدينين من أبناء جلدتهم في غزة، وقيام البعض الآخر بدعس العلم الفلسطيني بأقدامهم تحت صيحات الله أكبر. وفي مقابل ذلك نشهد مواقف مغايرة من قبل شعوب العالم التي أعلنت وقوفها ضد الجرائم التي يجري ارتكابها في غزة، وخرجت إلى الشوارع غاضبةً ومندّدةً بالجرائم الوحشية وتصنيفها ضمن قائمة جرائم الإبادة الجماعية التي تدخل ضمن الجرائم الدولية المعادية للإنسانية، ودفع حكوماتها إلى قطع علاقاتها الاقتصادية مع الكيان العنصري وسحب سفرائها، والإعلان عن إسقاط جنسيات مواطنيها الذين شاركوا في العمليات العسكرية في غزة.
المواقف العربية متباينة في تقييمها لما هو جارٍ في غزّة، وبطبيعة الحال سواءً اتفقنا أم اختلفنا مع مواقف هذا الطرف أو ذاك، فإن التباين في المواقف لا ينبغي أن يؤدي بنا إلى الخلاف على القضايا المصيرية للأمة. بيد أن ما يؤسف له أن تلك الحقيقة لم تصمد في مقارعة حقائق ما يجري من جرائم ضد أبناء جلدتنا في غزة التي أسقطها البعض من حساباته، نتيجة تقييمه الضيق لأبعاد ما هو جارٍ.
وعلى الرغم من ذلك هناك مواقف إنسانية ثابتة وموزونة لعدد من الدول في التزاماتها تجاه القضايا المصيرية للأمة العربية، وتؤكد حضورها في الدعم الدبلوماسي والإنساني للشعب الفلسطيني. القانون الدولي الإنساني مقوم رئيس في تصنيف حقائق ما هو جار من ممارسات حربية في غزة وقواعده القانونية تبين حصراً طبيعة الأعمال الإجرامية، وتحرم بشكل قطعي الجرائم ضد الإنسانية واستهداف المدنيين في العمليات الحربية، وما نشهده من مجازر بشعة بحق الأطفال والشيوخ والنساء والمدنيين الأبرياء والعزّل، يتجاوز ما تصنفه قواعد القانون الدولي الإنساني من التزامات للدول المتحاربة، والتي تحظر على الدول القيام بالعمليات الحربية التي تتسبب في إحداث الدمار الشامل والقتل الجماعي للمدنيين.
البروتوكول الأول للعام 1977 المكمل لاتفاقيات جنيف الخاصة بحماية المدنيين في ظروف النزاعات المسلحة لعام 1949 يحظر في الفقرة الأولى من المادة (52) «الهجمات الانتقامية على الأهداف المدنية»، ويعتبر أن «الأهداف المدنية هي التي لا تعتبر أهدافاً عسكرية». وتؤكد الفقرة الثانية من المادة ذاتها على أن «الهجمات يجب أن تقتصر على الأهداف العسكرية». وتحظر الفقرة الأولى من المادة (56) من البروتوكول ذاته «القيام بالهجمات العسكرية على السدود والخزانات والمحطات النووية لتوليد الطاقة الكهربائية حتى وإن كانت أهدافاً عسكرية إذا كان من شأن مثل هذا الهجوم أن يتسبب في انطلاق قوى خطرة ترتب خسائر بالغة في الأرواح أو إصابات بالأشخاص المدنيين، وتسبب وفاة أو أذى بالغاً بالجسد أو الصحة». كما تحظر المادة (54) من البروتوكول الأول تدمير الممتلكات الضرورية لحياة السكان كالمناطق الزراعية ومشاريع الري.
وبمقاربة ما هو جارٍ من عمليات عسكرية واستهداف للطواقم الطبية والمستشفيات والمدارس والمناطق السكنية ودور العبادة ومحطات توليد الطاقة الكهربائية وحرق المناطق الزراعية، بجوهر التزامات قواعد القانون الدولي الإنساني، يتبادر إلى ذهننا سؤال: ما الذي ينبغي أن تكون عليه الدبلوماسية الدولية في تقييمها لهذه الممارسات لتأكيد شفافيتها ومصداقيتها؟
إقرأ أيضا لـ "شبر إبراهيم الوداعي"العدد 4353 - الخميس 07 أغسطس 2014م الموافق 11 شوال 1435هـ
خير الكلام ماقل ودل
والفهيم يفهم