هل يمكن لأحد أن يشتري قفازاً بـ 400 ألف دولار؟ ربما يحصل ذلك، بل هو حقيقة موصوفة. فقبل أيام بِيْعت فَردَتَا قفاز الملاكم الأميركي محمد علي كلاي (72 عاماً) والذي ارتداهما خلال مباراته ضد غريمه جو فريزر قبل اثنين وأربعين عاماً بمبلغ 400 ألف دولار.
كتبت في «تويتر» معلقاً على ذلك بالقول: إنه «مبلغ يمكنه أن يُطعم نصف مليون فقير ليوم واحد». ردّ عليّ أحدهم قائلاً: «كعاشق للملاكمة، قد اشتري القفازات بأكثر من المبلغ المذكور لو استطعت. هم (أي القفازان) لا يُقدَّرون بثمن في رأيي». ولم أزِد عليه حرفاً!
أمام حادثة بيع تلك القفازات وغيرها من حاجيات المشاهير في المزادات العلنية، لا أعلم كيف يمكن للعالَم أن يضبط إيقاع تدافعه وحركته ما بين الثروة الفاحشة والفاقة المدقعة، مع وجود ثلاثة مليارات إنسان يعيشون تحت خط الفقر (دولاران في اليوم) من بينهم مليار ومئتا مليون إنسان يعيشون على أقل من دولار واحد في اليوم. إنه أمر يدعو إلى العجب والتفكر وتفسير طبيعة المسئولية الملقاة علينا كبشر وآدميين.
الذي يبدو أن الرأسمالية تسير بالعالم نحو نسخة جديدة ومركبة من ذاتها. فبعدما باتت الدول الصناعية تستحوذ على 97 في المئة من «الامتيازات العالمية»، والشركات المتعددة الجنسيات على 90 في المئة من «امتيازات التقنية والإنتاج والتسويق»، و20 دولة ثرية على 80 في المئة من «أرباح إجمالي الاستثمار الأجنبي المباشر في البلدان النامية»، أصبح الاستئثار مدحرجاً من الدول إلى الشركات ثم إلى الأفراد، وبالتالي تعميم وشياع ثقافة الهيمنة والاحتكار الذي يقتل الشعور بالآخر، وبروز أبناء الذوات أمام المسحوقين.
كل شيء بات متوحشاً أمام شعوب هذه الأرض. الدول، الشركات، ثم الأفراد من الأثرياء... وهم النسخة الأشد ألماً حين يتبارون في التلاعب بالأموال بشكل مريع، في الوقت الذي يوجد فيه زهاء مليار ونصف المليار إنسان في الدول النامية ليس لديهم مياه صالحة للشرب والاستخدام، ومليار وخمسة وسبعون مليون إنسان لا يتمتعون بسكن لائق، و860 مليوناً لا يتمتعون بأبسط الخدمات الصحية الاعتيادية، ومثلهم أطفال يعانون من سوء التغذية، ومثلهم أيضاً غير قادرين على إكمال تعليم ابتدائي للمستوى الخامس.
هذه هي الصورة التي تحكم نظام الأخلاق والعدالة الدولية الغائبة. 1210 من الأثرياء في العالم ارتفعت ثروتهم في عام واحد بنسبة 25 في المئة لتصل إلى 4.5 تريليون دولار! نعم هو رقم مليء بالأصفار إذ تعجز الآلة العادية عن إقامة عملية حسابية حوله.
قبل فترة وجيزة تم الإعلان عن اسم كارلوس سليم وهو يستعيد مكانته العالمية مرة أخرى بإعلانه كأثرى رجل في العالم بامتلاكه ثروة تزيد عن 79 مليار دولار! رجل واحد يمتلك مثل تلك الثروة الهائلة في حين لا تزيد موازنة السلطة الفلسطينية عن 3.8 مليارات دولار، والأردن عن 11 مليار دولار! بينما بالكاد قامت باكستان بتسديد 5.2 مليارات دولار في شكل أقساط مجدولة من إجمالي القرض المستحق عليها تجاه البنك الدولي. إنها كارثة.
أمام هذه القسمة الظالمة التي يستطيع فيها شخص واحد أن يُطعِم بثروته 4.3 مليار إنسان مدة عام وثمانية أشهر من دون توقف (وهو لا يفعل طبعاً)، تتوالد لدى البشر الرغبات المتوحشة نحو تكريس التمييز المعيشي ما بين الكفاف والكفاية إلى أبعد حد!
قبل شهرين، قرر الرئيس المصري السابق عدلي منصور فرض ضرائب بواقع 5 في المئة على كل مَنْ تزيد ثروته عن المليون دولار في مصر. بمعنى أن كل مَنْ يمتلك مليوناً عليه أن يدفع 50 ألف دولار! وكل مَنْ يمتلك مليار دولار فعليه أن يدفع 50 مليون دولار وهكذا دواليك.
وعندما نتخيل أن هذا الأمر يمكن أن يتحول إلى قرار أممي عالمي مُلزِم ونتوسع في أرقامه ونتائجه، فإن ما يتوجب أن يدفعه 1210 من الأثرياء في العالم من ثرواتهم البالغة 4.3 تريليون دولار هو مئتا مليار و15 مليون دولار. دققوا في هذا المبلغ! وعلينا أن نتخيل وندرك مفاعيله في حياة الفقراء والبائسين الذي يملأون الأرض مهما كانت أعدادهم.
هذه الثروة المستَحقة على أولئك الأثرياء أصلاً لو أنها أُدخِلت في دورة إنتاج متكاملة، لما ظلَّ فقير في هذا العالم. ولو أنها أنفِقَت لما تحسَّر الراحل الكبير عبد الرحمن السميط على مئة ألف طفل يُصابون بالعمى الدائم سنوياً في الصحراء الكبرى بسبب نقص في فيتامين (أ)، في حين لا يكلِّف دواؤهم سوى فلس واحد، تقيه لثلاث سنوات مقبلة.
ولو تم إخراج ذلك المال من أصحابه إلى مستحقيه لم يكن مرضى الملاريا ليحتارون كيف يمكن أن يتطببوا من دائهم رغم أن دواءهم لا يكلف أكثر من عشرة فلوس فقط! ولو تم إخراج ذلك المال لم يكن ليشرب الملايين من الفقراء مياهاً آسنة موحلة! ولن يأكل ملايين مثلهم علف البهائم وأعشاب الصحراء! ولن ولن ولن!
لكن، عندما تغيب المحاسبة عن تلك الأموال الفلكية التي يمتلكها أباطرة الثروة، يصبح اللعب بها بلا حساب ولا كتاب! شراء قفازات محمد علي كلاي! رسالة أو سروال كاترين الكبرى! سيف نابليون! وفي أماكن أخرى من عالمنا العربي والإسلامي بيع أحد الخراف بـ 400 ضعف وغيرها من النماذج. وتضيع الأموال هدراً وبجانبها حاجة نصف البشر إليها.
مشكلة البشر مع المال بالتحديد هي في ما قاله جون ستيوارت ميل وهو أن «الناس لا يودون فقط أن يصبحوا أغنياء، بل أن يصبحوا أغنى من الآخرين».
إقرأ أيضا لـ "محمد عبدالله محمد"العدد 4352 - الأربعاء 06 أغسطس 2014م الموافق 10 شوال 1435هـ
استحي من عمالي
انا صاحب محل
استحي من عمالي الذين يبذلون جهداً و لا استطيع أن أكافئهم
أين هذا النفس عند تجارنا
تحية
بارك الله فيك على هذه الروح
قفازات كاسيوس
الرأسمالية تقوم على دفع الإنسان إلى ما يشبه سباق الفئران في المتاهة للحصول على الغذاء وإعلام موجه يضمن بقاء الإنسان في هذا السباق بشكل مستمر.
لو الخمس يوزع منطقيا ما و جد و ما جاع فقير
ما جاع فقير إلا بما متع به غني
كلما زاد ثراء الأغنياء زاد جشعهم ومات احساهم
بالفقير
رد صاحب التغريدة
كل ما ذكرته في مقالك صحيح. و لكن في المجتمعات الحرة لا يوجد إنسان واحد أو جهة معينة مختصة "بتوزيع الثروة"، لذا يزداد الفقير فقرًا والثري ثروةً. قلت أني سأقتني قفازات الأسطورة محمد علي بأكثر من ذلك المبلغ لو استطعت لأن القيمة التي تمثلها لي القفازات أكثر من قمية المبلغ. من اشترى القفازات الاسطورية ليس مسؤولا عن الفقراء حول العالم و ليس السبب في فقرهم. و لا يمكننا أن نلوم الرأسمالية رغم تطبيقها الخاطئ على الفقر الذي تواجد في كل الأزمنة و لم تخل حضارة منه. العطاء بحسن النية و الإرادة الحرة.
الخمس
لو كان عندهم الخمس ما وجد فقير
هناك ملاحظة
اشكرك على المقال ولكن يجب عدم اغفال ان مستلزمات نجوم الفن والرياضة عادتا تباع من اجل تقديم دعم لمؤسسات خيرية او اقامة مشروع معين. ربما يجب التاكد من الهدف من بيع القفاز.
ام باقي ما ذكرته فاتفق معك فيه 100%
الطمع والجشع والاستحواذ وغيرها من الصفات هي ما يدير الحروب
عشرات الآلاف بل ملايين الناس تذهب حياتها ومليارات تذهب هباءا منثورا في حروب اساسها طمع وجشع وحب الاستحواذ على مقدرات الامم ولا نذهب بعيدا فأموال البترول العربي تختزل في ايد قليلة بينما لو انفقت هذه الاموال على البنى التحتية لاصبحت بلاد العرب جنان وجنات
ما الظلم البشر على بعضهم البعض
نحتاج الى مثل هذه التنبيهات التي تناسيناها بفعل الحياة ومتطلباتها اليومية
شكرا من الصباح
هؤلاء يا استاذ محمد محاسبون حسابا عسيرا يوم القيامة!! كيف يمكن لاحد أن ينفق على ملذاته وقماره بينما جاره وشعبه وناسه في جوع وفقر