لا يختلف اثنان اليوم في أنّ مسار العملية السياسية في ليبيا يعاني من الفشل، خصوصاً بعد أن ازداد الوضع الأمني تفاقماً مع انتشار واسع للسلاح، نتيجة غياب سلطة مركزية تحظى بإجماع كل مواطني ليبيا، سلطة كفيلة بفرض سيطرتها على كامل التراب الليبي. بل ربما تتجه البلاد اليوم إلى حافة الهاوية ذلك أنّ الأخبار الواردة مع العابرين إلى الأراضي التونسية من الأشقاء الليبيين أو من الجاليات العربية والأجنبية، تؤكد أن الخطر الداهم لم يعد يحسب بالشهر والأسابيع وإنما بالأيام أو الساعات، ما يرشح كفة الانهيار التام لهذا البلد الشقيق مع ما يترتب عليه من آثار على المنطقة عموماً.
ولعلّ ارتفاع نسق مغادرة البعثات الدبلوماسية الأراضي الليبية وحرص معظم الدول على إجلاء رعاياها وترحيلهم بهذه السرعة المهولة، هو من المؤشرات القوية على أنّ الخطر داهم، وأنه قد لا يستثني أي مكان بما في ذلك السفارات ومواقع المنظمات العالمية.
ولئن وجدت الجاليات المقيمة في ليبيا خيار العودة إلى أوطانها، فإنّ المواطنين الليبيين، وإزاء هذا الوضع المأساوي «الناري»، قد لا يجدون خيارات كثيرة، فإمّا البقاء تحت نيران القصف المتبادل بين «الأخوة» المتقاتلين، أو التهجير واللجوء إلى دول الجوار، وهما اختياران أحلاهما مرّ؛ فلئن كان الموت إبان الثورة بأيدي مرتزقة معمر القذافي وميليشياته أو بسبب قصف الناتو، فإنّ الموت الآن قادم من نيران بعض من ساهموا في الإطاحة بحكم القذافي وبعض من يحنون إلى مثل هذا النظام العسكري وبعض الجماعات الإسلامية المتشددة التي وجدت في ليبيا تربة خصبة لتترعرع وتتقاوى.
ولئن كان اللجوء سنة 2011 إلى أراضي دول الجوار ممكناً وميسراً، فإن ظروفاً صعبة تمر بها هذه الدول قد تحدّ من عبور الليبيين إليها.
بالتأكيد تتحمل القيادات التي تقلدت الحكم إثر سقوط نظام الحكم الديكتاتوري جزءًا كبيراً من المسئولية في تدهور الوضع، لكن قد يكون من الخطأ تناسي أسباب أخرى عميقة كانت وراء ما وصلت إليه ليبيا اليوم (حافة الهاوية)؛ ذلك أن كثيرين تتجافى أذهانهم عن طرح أسئلة كان لابد أن تطرح ويُجاب عنها بالدقة الكفيلة بإيجاد الحلول المناسبة؛ فمَن المسئول عن غياب أركان الدولة في ليبيا؟ ولماذا تغيب المؤسسة العسكرية (الجيش) عن حماية المسار الانتقالي؟ بل من الذي عمل على تغييب هذه المؤسسة؟ ولماذا لا تحكم ليبيا قيم المواطنة؟ وتحتكم إلى قيم القبيلة ومنطق العشيرة؟
وعموماً فإن السؤال العميق يستدعي سؤالاً أعمق: هل يُحاسَب من عمل على تغييب الدولة عن وعي وبإرادة أم نحاسب من سعى إلى بنائها وتركيز دعائمها على أسس ديمقراطية؟
لا ينكر أحد ما تمّ إنجازه في ليبيا بعد الثورة على نظام القذافي وخلعه من الحكم؛ حيث أخذت تسلك مساراً انتقالياً صحيحاً بإنجاز انتخابات ديمقراطية هي الأولى في تاريخ ليبيا الحديثة، إضافة إلى كتابة دستور للبلاد. وقد كان من الممكن مواصلة العمل في نفس النهج وتقديم تنازلات من قبل الفرقاء السياسيين أسوةً بالتجربة التونسية لولا دخول الجنرال خليفة حفتر على الخط، خصوصاً بما تلقاه من دعمٍ من قوى أجنبية مجاورة لا يساعدها نجاح التجربة الديمقراطية في ليبيا، ويهمّها إثارة الفوضى بحجّة محاربة الإرهاب. ولئن كانت بعض دوافع الجنرال حفتر معقولة فإنّ الوسيلة المتبعة هدّامة، إذ الانشقاق العسكري واللجوء إلى القوة في بلد ينتشر السلاح فيه بأيدي القاصي والداني، المعتدل والمتطرف، أمر لا يمكن السيطرة عليه ولا ضمان عواقبه.
إنّ ما قام به حفتر هو نوعٌ من الانقلاب العسكري على المسار الانتقالي في ليبيا قد يكون أسوةً بالأحداث التي وقعت في مصر، غير أنّ النتائج الميدانية وإن مالت إلى صالحه في البداية فإنها بدأت تأخذ مساراً آخر خصوصاً بعد توحد بعض الجبهات المقاتلة ضد الجنرال حفتر.
لكن، في كلا الحالتين فإنّ نموذج حفتر قد يعيد إلى الأذهان منظومة الحكم العسكري الدكتاتوري، والحال أنّ ليبيا تستحق أفضل منه، كما أن انتصار الجبهات الإسلامية المتشددة قد يعيد إلى الأذهان نماذج من حكم طالبان أو بعض ما يحصل في سورية والعراق الآن.
ولئن تحكم الفوضى الأمنية الهدامة ليبيا في الوقت الراهن، فإن الحلّ قد يأتي من أسوار الأمم المتحدة أو حلف الناتو، وإنْ كان تدخلهم القريب مستبعداً جداً؛ إذ من مصلحتهم تواصل الفوضى وانفجار الوضع أكثر فأكثر. بل قد يكون من آمال بعضهم تعكير صفو الانتقال الديمقراطي في تونس بتصدير الفوضى الهدامة إليها من خلال ليبيا، عبر بوابة اللاجئين وما يمكن أن يدخل معهم من إرهابيين، خصوصاً أن تونس على موعد قريب مع الانتخابات التي تخرجها من المرحلة الانتقالية إلى مرحلة الاستقرار الدائم.
إنّ الدور العربيّ مطلوب وبإلحاح في مثل هذا الوقت، كما أنّ الدول المحبّة للخير والسلام يمكن أن تجمع الفرقاء لإيجاد الحل المناسب وتجاوز المحنة الخطيرة التي تحدق بليبيا. إضافة إلى القوى الوطنية في ليبيا وما يمكن أن تلعبه من دور إيجابي؛ إذْ لابد أن تسعى بكل ما أوتيت من قوة ونفوذ، إلى إيقاف هذا النزيف الخطير، وأن تجد للوفاق بين الفرقاء سبيلاً أسوةً بالتجربة التونسية حتى تواصل ليبيا مسارها الانتقالي في أحسن الظروف.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4350 - الإثنين 04 أغسطس 2014م الموافق 08 شوال 1435هـ
ليبيا والخيارات الصعبة
ليبيا في دوامة الحسابات الأجنبية والتعصب القبلي الداخلي والدخيل / الإرهاب
كان الله في عون الشعب لأنه هو من يدفع الفاتورة
لكن واجب الأخوة والجوار ضروري
ولئن كان اللجوء سنة 2011 إلى أراضي دول الجوار ممكناً وميسراً، فإن ظروفاً صعبة تمر بها هذه الدول قد تحدّ من عبور الليبيين إليها.
هذا خطير
ولعلّ ارتفاع نسق مغادرة البعثات الدبلوماسية الأراضي الليبية وحرص معظم الدول على إجلاء رعاياها وترحيلهم بهذه السرعة المهولة، هو من المؤشرات القوية على أنّ الخطر داهم، وأنه قد لا يستثني أي مكان بما في ذلك السفارات ومواقع المنظمات العالمية.
ليبيا هل إلى وفاق من سبيل؟
ندعو لأهلنا في ليبيا بالخير والصلاح وأن تحقن دماؤهم ويصلوا إلى توافق لبناء الوطن
سؤال مهم لفهم الحالة الليبية
هل يُحاسَب من عمل على تغييب الدولة عن وعي وبإرادة أم نحاسب من سعى إلى بنائها وتركيز دعائمها على أسس ديمقراطية؟