قالت العرب قديماً: «ما كُتبَ قَرَّ، وما حُفظَ فَرَّ»، على رغم أن العرب لم يكونوا ممن عرفوا الكتابة إلا قليلاً. وأكثر ما عُرف عن العرب الذين يكتبون أنهم كانوا يُدينون بالمسيحية، إذ تعلّموها في البيئات تلك، وكان لها كتاتيب كما هو الحال مع فترة الإسلام وما بعده بقرون، ضمن النمط التعليمي التقليدي. وكانت أكثر دواعي تعلّم الكتابة هي «العهود والمواثيق التي يرتبطون بها فيما بينهم أفراداً وجماعات». ولم يقتصر الأمر على تعلّم الكتابة باللغة العربية لدى المسيحيين العرب في شبه الجزيرة العربية، بل تعدّاه إلى تعلم عدد من اللغات ومن بين اللغات الأكثر شيوعاً وحضوراً وقتها (الفارسية) بحكم العلاقات والروابط بين القوة العظمى الثانية وقتها (الفرس)، وعرب شبه الجزيرة وغيرها من بلاد العرب في العراق والشام.
وتشير السيَر إلى أن «عدى بن زيد» المسيحي «أتقن الخط الفارسي وصار أفصح الناس وأكتبهم بالعربية والفارسية. ثم انتقل إلى بلاد فارس فأصبح كاتباً بالعربية ومترجماً في ديوان كسرى».
وفي ثنايا السيرة أيضاً أن «ورقة بن نوفل كان يكتب التوراة والإنجيل باللغة العربية».
ما هي مناسبة تلك المقدّمة؟ صدور كتيّب «نحو تأسيس لا طائفي لثقافتنا الوطنية»، هكذا نظرت إلى الشيخ ميثم قبل 35 سنة»، وهو عبارة عن نص قديم كتبه مستشار جلالة الملك للشئون الثقافية والعلمية، المفكّر البحريني محمد جابر الأنصاري، أعاد صوغه بما تقتضيه لغة المرحلة ومسار بحوث ندوة «الشيخ ميثم البحراني وحياته العلمية» التي استضافتها مملكة البحرين بمشاركة عدد كبير من العلماء والمفكرين والباحثين من عدّة دول، وذلك يوم الإثنين (28 نوفمبر/ تشرين الثاني 2005)، بمناسبة الذكرى المئوية السابعة على وفاة عالم ومتكلم البحرين والعالم الإسلامي.
النص كتب في العام 1966، وكان وقتها الأنصاري في السابعة والعشرين من عمره.
تسع سنوات مرّتْ على الكتيب الذي أصدرته وزارة الشئون الإسلامية، وكان ذلك اسمها في العام 2005، بالتعاون مع المجلس الأعلى للشئون الإسلامية. والكتيّب لم يحمل سنة الطبع؛ إلا أن أي متتبّع للتغيير الذي طرأ على مسمّيات الوزارات اختصاراً أو إسهاباً، يستطيع أن يدرك أن الكتيب تمّت طباعته بمناسبة الندوة المذكورة.
الكتيّب صدر قبل الأحداث التي مرّت بها البحرين في العام 2011، وما آلت إليه الأوضاع من تخريب بعض المقامات والأضرحة وهدم بعض المساجد؛ بحسب ما أشارت إليه اللجنة البحرينية المستقلة لتقصي الحقائق، والتي عرفت باسم «لجنة بسيوني»، وما تبع تلك من تطوّرات وأحداث؛ على رغم صدور التقرير الذي وجد صدى عالمياً وتصدّر نشرات الأخبار يوم إعلانه وتلاوته.
استعراض الكتيب يأتي في مرحلة مفصلية يمر بها البلد، ويتطلع المخلصون من أبنائه إلى أفق حل يكفل الحقوق ويجعل من المُوَاطنة سقف التعامل مع المكونات على اختلاف توجهاتهم واعتقاداتهم. ومثل تلك الكتابات تظل تسهم بطريقة أو أخرى في امتصاص شيء من الاحتقان الذي ساد، والتوتر الذي عمَّ - ولايزال - سعياً وراء الالتفات إلى ما يحفظ لهذا البلد ريادته وسماحة أهله وانفتاح مكوناته بحكم تحضّره ووعيه وثقافته واحترام شعوب المنطقة والعالم له.
وكل ما يسهم في إنعاش الذاكرة لتصحيح المسارات يصبّ في خانة الحرص على الصحيح من الأوضاع، والعادل من النظر، والحق في الحياة بعيداً عن كل ما ينغّصها ويجعلها عرْضة للاحتقان والتوتر والتورط في واقع مغلق. مغلق على كل شيء يتم تحديده، ويقصي من يريد إقصاءه. مثل ذلك الواقع لا ينبئ عن السويّ من الحياة؛ بل ينبئ بالنقيض منها!
جرت مياه كثيرة تحت الجسر منذ سنوات تسع. تبدّلت مواقف وقناعات ونظر. لكن ذلك لا يمنع من التفكير بصوت عالٍ، واستدعاء كل ما يسهم لا في حلحلة الأوضاع فحسب؛ بل وضع حدّ لكل هذا العبث من حولنا. العبث المُكلف الذي لن يُستثنى من دفع استحقاقاته وفواتيره أحد.
الغريب أن الجهتين اللتين تبنّتا إقامة الندوة، وطباعة الكتيب، وبعد سنوات من انفضاض سامر الندوة، كان لها دور بالصمت عن التعدّي على مقام العلامة الشيخ ميثم، وغيره من المقامات، وتتهم المعارضة أن واحدة من تلك الجهات اضطلعت بملف هدم عدد من المساجد ودُور العبادة فترة الأحداث التي مرّت على البلد.
الكتيب الذي يضم 18 صفحة يبدأ بمطالبة «إحياء التجديد في كل خلية من خلايا الوطن»، ويرى في مشروعات كتلك - ندوة الشيخ ميثم، والإصدارات التي تصب في مجال إعادة قراءة وإحياء التراث العلمي والفقهي والكلامي لرجالات البحرين الكبار - «استفاقة جديدة وعودة لإحياء مشروع مبكر» سبق أن طرحه الأنصاري نفسه قبل نحو ثلث قرن.
تتناول المقدمة مفارقة كبرى؛ ففي الوقت الذي يحظى به الفقيه والمتكلم الشيخ ميثم بمكانة مرموقة في الأوساط العلمية ليس في بلده فحسب؛ بل امتدت تلك المكانة لتشمل العالم الإسلامي، وبشهادة أساطينها، لم يحظَ الشيخ في بيئة كانت ضمن زمنها، متخلفة وشبه أمية حجّمتْ إمكانات الرجل الذي لم تلتفت إليه في حياته في قيمته وهو مسجى في ضريحه، وخصوصاً من عامة الناس الذين يقصدون ضريحه «للتبرّك وتقديم النذور وانتظار الكرامات».
الأنصاري يشير إلى أن المشروع الذي بدأه في وقت مبكر، يرمي إلى إعادة تأسيس وإعادة كتابة «تاريخ ثقافتنا الوطنية من منطلق غير طائفي». وذلك موقف سامٍ إذا ما تحرّى الحقيقة والنظر إلى قيمة تلك المآثر والرجال بعين وروح باحثة. لكن مياها كثيرة جرت تحت الجسر أيضاً منذ سنوات تسع إلى الآن، وفي ذلك عبْرة؛ والنظر في الشواهد وافر وفرة ما حدث على النقيض من كل ذلك!
المفكّر الأنصاري نفسه وقبل 44 سنة في الفترة ما بين 1966-1970، أفرد بحثاً خاصاً ضمن دراساته المبكرة الأولى في الثقافة الوطنية البحرينية، والتي بدأها منذ العام 1966 في صحيفة «الأضواء» البحرينية التي كان يرأس تحريرها المرحوم محمود المردي، ونشرت تحت باب «أضواء على الأدب والفكر».
مقابل ذلك التوجه؛ بحسب الأنصاري، في رصد الثقافة بعيداً عن التوجه والاصطفاف الطائفي، يشير إلى مشروعي مؤرخيْن بحرينييْن تأثرا بالنطاق المحلي، فذهب كل منهما إلى توثيق ورصْد أعلام طائفته، أولهما المؤرخ الراحل مبارك الخاطر، ضمن عدد كبير من مؤلفاته، وكان غزير الإنتاج له نفس طويل في البحث والرصد، والآخر المرحوم محمد علي التاجر، في كتابه الموسوعي «منتظم الدُّرين في أدب البحرين»، على رغم «الفائدة التاريخية لأبحاث كل من المؤرخيْن البحرينييْن» بحسب ما أشار في المقدمة.
يستهل الأنصاري نصه القديم بعد إعادة صوغه بواقع ابتداع الأسطورة في الشرق؛ سعياً وراء «التبجيل والتعظيم» لكل رجل أوتي إبداعاً أو قوة، والقوة هنا قد تأتي في قدرة ذهنية وعقلية لا تُجارى، وتكون فريدة عصرها والوقت. لينالها (العقلية) بعد رحيله «الانبهار وتقبيل الآثار والأقدام والعتبات». لا مكان للتفكير الموضوعي، و «تحليل الأشياء والرجال بغربال العقل والمنطق». كان ذلك واقعاً لم ينفرد به شعب هذه الأرض. كان واقعاً متطابقاً في ما جاوره أو حتى نأى عنه، في ظل واقع من التخلف؛ وندرة منارات العلم وإشعاعات الفكر وحركة تأثيره في الوسط الذي ينشأ منه وعنه.
وجاء في النص «في هذه المأساة المضحكة: أنتجت البحرين في القرن السابع للهجرة أديباً وفيلسوفاً ومتكلماً وفقيهاً ملأ الدنيا العربية كلها، ولفت أنظار العلماء المسلمين في كل مكان حتى استدعاه علماء العراق إلى بلادهم،وألحّوا في استدعائه، وبالغوا في إكرامه والاحتفاء به، والاستفادة من علمه، وتحدّث عنه المؤلفون والمؤرخون، وأطروا مؤلفاته في الأدب وعلم الكلام والفلسفة والمنطق».
في الجانب الآخر من واقع البشر الذين عاصروا كل تلك الطاقة الكبيرة والمذهلة، يقول الأنصاري: «فماذا فعل الناس هنا في بلاده؟ ببساطة، انتظروه حتى مات... عندما دفنوه وحوّلوا قبره إلى مزار وإلى مكان للنذور وتقديم الصدقات وطلب الكرامات وتقييمها ونشرها، ولم يكلف أحد منا نفسه عناء البحث عنها لدراستها وتقييمها ونشرها على الملأ، كما يفعل الناس بتراثهم الخالد في كل زمان ومكان».
تضمّن النص جانباً من السيرة الذاتية للفقيه الشيخ ميثم، جاءت تحت عنوان «من هو «ميثم» الحقيقي؟، ضمّنها شهادات لكبار علماء عصره وما تلاه من عصور، من بينها شهادة العلامة الشيخ سليمان بن عبدالله، في كتابه «السلافة البهيّة في الترجمة الميثمية»، والتي جاء فيها: «هو الفيلسوف المحقق، قدوة المتكلمين والفقهاء، العالم الربّاني، كمال الدين بن علي بن ميثم، غوّاص بحار المعارف، ضم إلى الإحاطة بالعلوم الحقيقية، والأسرار العرفانية (يقصد المعرفة الصوفية). ويكفيك دليلاً على جلالة شأنه اتفاق كلمة أئمة الأمصار على تسميته بالعالم الربّاني، وشهادتهم له بأنه لم يوجد مثله في تحقيق الحقائق، وتنقيح المعاني»، إضافة إلى شهادة الحكيم والفيلسوف محمد الطوسي، الذي شهد له بالتبحّر في الحكمة والكلام، وكذلك الشريف الجرجاني، والعالم صدر الدين محمد الشيرازي والذي «أكثر من النقل عنه في كتبه، وخاصة في مباحث الجواهر والأعراض (من قضايا الفلسفة المهمة في العصر الوسيط).
ويعرج النص على هجرته إلى العراق، والقصة الشهيرة التي حدثت له حين عاملوه بجفوة أول الأمر، نظراً إلى لباسه الرث والممزق، وتغيّر النظرة تلك حين ارتدى أجمل ثيابه وأبهاها، لينهي الأنصاري نصّه بقائمة لأشهر مؤلفاته وهي خمسة: شرح نهج البلاغة (أدبي)، القواعد في علم الكلام (ديني فلسفي)، تحقيق أمر الإمامة (فقهي سياسي)، المعراج السماوي (في التصوّف)، البحر الخضمّ (في الدِّين).
وبكلمة: في الثقافة. في الفكر. في ما يجمع ويحدد المشتركات بين البشر، يمكن بناء قاعدة كبيرة من الثقة والانسجام والتآلف. التاريخ ليس ملكاً لأحد. ما تنتجه العقول والأفكار هو الآخر ليس ملكاً لأحد. ما تحتاجه أي أمة اليوم هو البحث عن تلك المشتركات ضمن التاريخ الواحد، والمصير الواحد ليكون نقطة انطلاق لاحترام وتقدير وألفة فيما بين المكونات جميعاً. والذين يضربون بكل ذلك عرض الحائط، تنكّراً لوجود وجذور وثقافة وأصالة مكون من المكونات، وإن استتبّت لهم الأمور مؤقتاً لهم؛ إلا أنهم سيكونون منذورين للخسارات على أكثر من مستوى، وفي صور شتى؛ لما يخلفه ويتركه ذلك التنكّر والإلغاء والشطب والمحو والتشويه من أثر على المدى البعيد، وعلى التشكيل الجميل في التنوع الأجمل، ذلك الذي يعبّر عن قيمة الإنسان في حال انفتح وتآلف وانسجم مع من وما حوله.
وفي إعادة لما ورد في مقدمة هذا الاستعراض، قالت العرب قديماً: «ما كُتبَ قَرَّ، وما حُفظَ فَرَّ»، يتيح ما يُكتب شهادة ربما يأتي رجال بعد زمن فيعمدون - توهّماً منهم - إلى التنكّر وإلغاء وشطب ومحو وتشويه حقيقة بشر ضمن ذلك التنوّع البشري والفكري والعقائدي، وما كُتب يظل حجة تقرَّ ولا تبلى وإن بلي الزمن.
العدد 4349 - الأحد 03 أغسطس 2014م الموافق 07 شوال 1435هـ
هذا رأي الأنصاري
هذا رأي الأنصاري و هو حر فيه و لكنه ليس ملزم لاحد
ايام زمان البحرين كانت جميلة
التي تقوم بأمور المسجد كانت من الجفير واكثر الزائرين الى هذا المرقد كانو من اهل السنة ولايغلق باب المسجد الى بعد صلاة العشاء لان الاضاءة في المنطقة ضعيفه جدا او غير موجودة حتى نهاية 1971
رحمك الله و نفعنا الله من علمك..نحن بأمس الحاجة الى فكر هذا الشيخ العظيم...
لماذا يبذل الآباء فوق الطاقة لتعليم الأبناء مختلف العلوم الدنيوية، ولكن يهملون وبشكل مدهش العلوم المرتبطة بتنشئتهم على القيم الروحية و الاستدلالات العقلية التي تمنع انحرافهم و مواجهة مختلف التيارات المنحرفة فضلا عن تأمين الحياة الخالدة!
ما أحوجنا للتمسك بنهج هذا العالم الفذ الذي غاص مختلف بحور العلوم و استخرج من كنوزه ما ينفع الناس حتى صار مدرسة فلسفية، فقهية، سلوكية و أدبية، بل عارف بزمانه متصد للشبهات و الانحرافات.
لساني عن إحصاء فضلك قاصر وفكري عن إدراك كنهك حاسر
البحرين بلد العلماء
كانت ولازالت البحرين تنجب العلماء على مر العصور إلا أن أهل البحرين لا يقدرون تلك النعمة إلا بعدما نفقدها
لنا الفخر
هذا علمنا هذا تراثنا هذا ديننا فارنوني ما صنعتون
كان فعل ماضي
كانت البحرين بلد العلم والعلماء لاتكاد قرية تخلو من مقام او اكثر لعالم رباني او شاعر او فقيه او او او
لكن من عوامل التعريه من الحكومة هي التي ادت الى تضأل العلم والعلماء بسبب الضلم والاضتهاد والتصفية من قديم الزمان الى هذا الزمان
الفاتحة الى روح الشيخ ميثم البحراني وجميع علماء البحرين الاعلام
رحم الله الماضين وحفظ الله الباقين