كومة سوداء من ملابس متسخة، بداخلها جسد حي إلى جانب عمود خشبي مهمل ينتصب بقارعة طريق... تصطف أمامها زنابيل ومقاطف وقفف وأسبتة ومكانس قوامها معطيات جريد النخل... كانت قد لجأت إليه منذ سنوات لتعرض منتجاتها على المارة، حتى شكلت والعامود معلما مهما يشار إليه، ظلت هي والعمود في جلستيهما الأبدية شاهدان على مرور تاريخ المنطقة، وامتصاص حكايات وأحاديث يثرثر بها الآخرون دون أن يعنى لهما الحدث.
ومن بين تلك الثرثرة والتي تتضافر وتصنع حكايات، يطل التاريخ هازئاً منهما، تاريخ تفرد جغرافيته بأعمدتها الأسمنتية منازل لأشخاص لا تاريخ لهم.
وفي ظلال تلك الجدران الأسمنتية، كانت تستتر وهي تضفر سعف جريد النخل في ضفائر طويلة، ثم بمخرز وحبال رفيعة يتكون لديها زنبيلا أو قفة.
أن السعف النابت على جانبي الجريدة يعد شيئا تافها، بل يكاد أن يكون معدوم القيمة، لكنه بين يديها يتلوى على شكل ضفائر، ومن ثم يتحول إلى مقاطف وزنابيل لها معنى، أيضا سوق العراجين القديمة عديمة الفائدة تقريبا.
تعمد إلى سكين قديم تغرسه بين أليافها لاستنباط شرائح رفيعة رقيقة تغمسها في الماء كي يلين ويسهل تشكيلها، هذه الشرائح مع أعواد حطب القطن تعتبر البناء الأساسي لمشنات وأطباق كبيرة واسعة. بطون جريد النخيل تبقرها بذات السكين توطئة لتكوين أقفاص. تحكم زوائد العرجون الطازج حول يد خشبية بحبال ليف رفيعة لإعداد مكنسة. أورثتها أمها قبل رحيلها حرفة تحسبا لعوادي زمن لا تعرف له لون، وقد صدقتها حين لجأت إليها بعد وفاة عائلها.
كان رجلها قد غرس بأحراشها طفلا وطفلة لم يمهله القدر لرعايتهما. فتكفلت بهما.. لا تدري كيف اتفق لها الجلوس إلى هذا العمود دون غيره؟.
ترى أن هناك أعمدة أخرى كان مجلس القرية قد غرسها بأماكن متفرقة على الطريق لتمتد فوقها أسلاك برق وهاتف.. سمعت البقال الذي افتتح متجرا بمواجهة مجلسها إلى العمود بإحدى تلك البنايات الحديثة، وأن هذه الأعمدة باتت بلا معنى.. إذ أن رئيس المجلس القروي كان قد عدل عن مد أسلاك فوق الأعمدة مستبدلا إياها بكابلات أرضية.. ولم تعرف أبدا ماهية هذه الكابلات، وأن اعتبرت أن كلام البقال هذا تعريضا بجلستها لم تعره اهتماما.. كل ما تعيه أنها رأت في البقال أشياء بعينها تذكرها ببعلها الراحل.. ربما صوته الجهوري أو حركته المتأنية حين يصف بعضا من بضائعه أمام المتجر، أو حتى هيئته وملامحه عن بعد... أيقظت تلك التوافقات بداخلها حنينا للذي مضى من بهجة العمر.
عادت إلى مجلسها بجوار الحائط. أمسكت بنواة البلح، راحت تضرب الحظ وتخطط على الأرض.. من حركات النواة تعرف حظها أيقنت أن حياتها سوف تسير في نسق واحد.. طريق يملأه الشقاء والعناء، غزت شفتاها ابتسامة كسول وراحت بصوت عالٍ تلفت أنظار المارة إلى بضاعتها، لتهرب من صخب روحها تفر من الحزن المتربص بها.
تتخذ النسوة المترددات على السوق من مجلسها إلى جوار العمود استراحة أو محطة للقاء أو الثرثرة أو تناقل الأخبار، مع شد وجذب مستمرين في الأسعار المبالغ فيها حول بضاعتها.. منهن من يبتعن بعض منتجاتها ولكن الأهم أنها تعرف كيف تنشر الأنس في مجلسهن، إذ تهبط الأخبار منهن طواعية، فتلم بطزاجة ما يتكلمن به، كل واحدة تنزف قصصها أو أسرارها وحتى أوجاعها... تجد بنفسها امتنانا لعمود التصقت به لسنوات، حتى شجبت إليه مظلة من نسيج أجولة خيش قديمة تقيها وجليساتها أشعة شمس حارقة.
دائما ما تشعر بأن رائحة الليف المبلول وشرائح العرجون القديم وطزاجة الجريد، قد امتزجت، ورائحة جسدها الذي يتصبب عرقا تحت وهج حرارة الشمس الضارية.
لذا فإنها تحرص عصر كل يوم خميس أن تستبدل ملابسها المتسخة بأخرى نظيفة، بعد أن تستحم وتمشط شعرها وتكتحل استعداد لزيارة أسبوعية لفقيدها بمرقده الأخير.
هناك حيث ترى مثيلات لها عن بعد تطلق عبرات وزفرات وتذرفن دمعات تجود بها من مآقيها في مناجاة تتوحد في جوقةٍ واحدةٍ من طرف واحد لمن تركها دون عائل ورحل. لاحظت أن مبيعاتها من المكانس والسلال تناقصت وقل الإقبال عليها.
غير أنها تفهمت السبب عندما رأت صاحب المتجر الكبير، بمواجهتها الذي يدعو «ماركت» يعرض مكانس وسلال بلاستيكية ذات ألوان زاهية جذابة أفضل كثيراً من منتجها.
أسقط في يدها، غزاها شيء من الإحباط وعزمت الكف عن إنتاجهما، مكتفية بالزنابيل والقفف والأقفاص... إحساس مريع بأنها تنكمش على نفسها ببطء على غير إرادة.
وأخيراً، غزت سماء أحداث حياتها واقعة زلزلت معنوياتها بشدة..
ذات يوم انقض عليها عمال وموظفو مجلس القرية ليقصوها عن موضع ارتبطت به على مدى سنوات بكل غلظة... موضع بلغ بها حدّاً من تآلف وانسجام لا يقل عن ألفة منزل قضت به الشطر الأكبر من حياتها... ألقوا بكل منتجاتها بعيدا عن العمود الخشبي... بعثروا كيانها دون اعتبار لشيء... ولولة وصراخ تلازما مع لم شعث دون أن يهتم لها أحد... لكن الأهم أنهم اقتلعوا العمود عن موضعه.
لا تدري كيف عادت إلى منزلها بما تبقى من بضاعتها حيث فقدت أغلبها. حزينة يائسة ومكبلة بالعجز، كأن عائلها الحقيقي مات وفارقها الساعة.
لا مبالاة ذات وقع أشد واجهتها من نبتتين رعتهما طويلا بلغ حد ارتياح أن لم يكن حد شماتة.. أذهلها جحود ونكران وما أسعفتها كلمات احتجاج تواكب ما اعتراها من سخط وحنق فانغلقت على نفسها بدموع تركتها تنساب في خطوط متعرجة على وجنتيها دون أن تنفضها.
هدأت أخيراً... لجأت إلى ركن بقاع منزلها وقد عزفت عن الطعام..
كلمات انسابت من النبتة الأكبر، بأنه آن لها خلود إلى راحةٍ بعد طول عناء فقد اشتد عود النبتتين وأن هناك طالبا يد ابنتها.
أيضا هناك من يخطب ودها من جيرانهم متنكبا ذات السياق لتحل عليهم كزوجة.
كلمات ابنها تأتي إليها من واد سحيق بعيد بعد ذلك الزمن القديم، منذ اتخذت من العامود الخشبي المهمل موضعا لعرض منتجاتها.
منذ إن فارقها العائل الأوحد وتكفلت بإعالة أسرتها دون أن تمد يدا لأحد فلم تعقب.. أخذ منها الحنين كل مأخذ. فتسللت من منزلها بعد أيام لتتفقد الموضع الأحب إليها.
ذهلت إذ رأت عموداً حديدياً انتصب بذات الموضع امتدت أسلاك كهربية إلى جواره كومة لحم في ملابس قشيبة بداخلها امرأة تبيع جبناً وعسلاً، تبسمت راضية النفس وهي تحدق في صمت.
العدد 4347 - الجمعة 01 أغسطس 2014م الموافق 05 شوال 1435هـ