اجتمع مؤخراً زعماء مجموعة البريكس (BRICS) التي ترمز حروفها إلى أسماء الدول الأعضاء في المجموعة: البرازيل وروسيا والهند والصين وجنوب إفريقيا، في مدينة فورتاليزيا في البرازيل بدعوة من رئيسها، خلال فترة وبعد انتهاء دورة كأس العالم بالبرازيل، ما يدل على الدور الحيوي الذي تلعبه البرازيل في عهدها الديمقراطي، وبعد عقود من حكم العسكر.
ودول «البريكس» المنتشرة على القارات الأربع، أوروبا وأميركا اللاتينية وآسيا وإفريقيا، هي من كبرى الدول اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً، حيث يمثل مجموع ناتجها القومي 25 في المئة من الناتج القومي العالمي العام، فيما يمثل سكانها 40 في المئة من سكان العالم.
أما الخطوة النوعية التي اتخذتها قمة «البريكس» فهي إنشاء بنك التنمية الجديد، ومقره مدينة شنغهاي المزدهرة والناجحة وعنوان صعود الصين الاقتصادي المبهر. وعلى حد قول عالم الاقتصاد المشهور جوزيف ستيجلز الأستاذ في جامعة كولومبيا الأميركية المعروفة، والحائز على جائزة نوبل لعلوم الاقتصاد وكبير اقتصاديي البنك الدولي سابقاً، فإن دول «البريكس» اليوم هي أغنى من الدول المؤسسة حينها للبنك الدولي بقيادة الولايات المتحدة. وقد جاء إقامة بنك التعمير الجديد، مؤشراً لصعود اقتصاديات هذه الدول، واستجابة لمتطلبات تعاونها في التنمية والاقتصاد، وبعد سنوات من المعاناة مع البنك الدولي الذي تسيطر عليه الولايات المتحدة بما تفرضه من شروط مجحفة.
وفي مقابلة مطولة أجرتها آني جودمان، من «منظمة الديمقراطية الآن»، مع عالم الاقتصاد جوزيف ستيجلز عن قمة «البريكس» الأخيرة ومغزى إنشاء بنك التعمير الجديد، أكد على عدد من القضايا أهمها أن هناك حاجة ماسة لتوفير موارد مالية للاستثمار في بلدان هذه المجموعة والبلدان النامية، بما لا يقل عن 2 تريليون سنوياً، في حين أن المؤسسات المصرفية الدولية الحالية مثل البنك الدولي وصندوق النقد الدولي لا تلبّي إلا 4 في المئة كحد أقصى. لذا فإن بنك التعمير الجديد سيسهم في توفير الأموال لتدفق الاستثمارات المطلوبة، وذلك مؤشر على تحوّل أساسي في توازنات القوة السياسية والاقتصادية حيث أضحت مجموعة «البريكس» أكثر تقدماً مما كانت عليه مجموعة الدول حين تأسيس البنك الدولي وصندوق النقد الدولي، لكن ذلك لم يترتب عليه تحوّل في المؤسسات المصرفية الدولية رغم المطالبات بتغيير في هيكلية دور البنك الدولي وصندوق النقد الدولي من قبل مجموعة العشرين.
ومن ذلك أن رئيس البنك الدولي يتوجب أن يكون أميركياً، ورئيس صندوق النقد الدولي يتوجب أن يكون أوروبياً، في حين يتوجب اختيار الأكفأ، كما تعكس هاتان المؤسستان غياب الديمقراطية والنزاهة والشفافية والحكم الصالح، إضافة إلى ذلك فإنه على رغم التحولات الهائلة في العالم، واحتياجاته وأولوياته، فإن هاتين المؤسستين ليستا حسّاستين للاحتياجات الجديدة لاقتصاديات الدول النامية، وظلت معاييرهما واعتباراتهما تقليدية. هذا هو ما يتوجب على بنك التنمية الجديد.
هناك معطيات مهمة أسهمت في بلورة القرار بإقامة بنك التنمية. فالصين تتوافر على احتياطي مالي يتجاوز 3 تريليونات دولار، وبالتالي فهي بحاجةٍ إلى استثمارها بطريقة أفضل من شراء سندات الخزانة الأميركية بالدولار المعرض للتذبذب وتحت رحمة السلطات الأميركية وتآكل القيمة الحقيقية لهذه السندات. وبالتأكيد فإن إعادة استثمارها في مشاريع تنموية وخصوصاً البنية التحتية لبلدان «البريكس» والبلدان النامية، أكثر جدوى وربحية وضماناً.
أما البرازيل فلديها تجربة ممتازة حيث إن بنك التعمير البرازيلي ذو رأسمال أكبر ودور أكثر فاعلية من البنك الدولي للتعمير، ويمكن أن تقدم خبرتها هذه في إقامة بنك التنمية الجديد.
ونبّه جوزيف ستيجلز زعماء «البريكس» ألا يعيدوا ارتكاب أخطاء تشكيل وإدارة المؤسسات المالية الدولية الكبرى، في ضرورة عدم تسييس اختيار المسئولين في بنك التنمية الجديد؛ وولاء المسئولين للمؤسسة وليس لبلدانهم؛ وضرورة أن تكون الإدارة ديمقراطية وشفافة وكفوءة ونزيهة.
كما يجب إعطاء الأولوية لتحويل مشاريع البنية التحتية الكبرى التي لا تقدر عليها المؤسسات المالية الوطنية أو الإقليمية، ومنها المياه والطرق والتعليم والصحة والموانئ. وبشكل عام فإن مشاريع البنك يجب أن تسهم في تعزيز النمو الاقتصادي المستدام المرتبط بالعدالة الاجتماعية والتشغيل والبنية النظيفة والقدرة التنافسية.
وقد طرح الاقتصادي خوان جونزاليس سؤالاً على جوزيف ستيجلز عن معضلة تدفق العمالة من بلدان الجنوب على بلدان الشمال، فيما تعمل بلدان الشمال على إقامة حواجز قانونية ومادية لإيقاف هذا التدفق، والذي نرى نتائجه الكارثية في مآسي غرق الآلاف من الشباب وهم يحاولون عبور البحر الأبيض المتوسط نحو أوروبا جنة الأحلام، وكذلك نزيف الكفاءات من البلدان النامية إلى البلدان المتطورة. وفي الوقت ذاته فإن الدول المتطورة تصرّ على حرية انسياب رأس المال دون عوائق أو ضرائب.
وقد ردّ ستيجلز على ذلك بقوله إن الولايات المتحدة بشكل خاص عندما تصرّ على حرية انتقال رأس المال، فإن ذلك ليس حرصاً على نمو وازدهار الاقتصاد العالمي، ولكن لمصالحها الخاصة، وهو ما يريده القطاع المصرفي وخصوصاً المصارف الأميركية، وهو ما تسبّب أحياناً في أزمات، كما حدث لاقتصاديات جنوب آسيا قبل سنوات.
وبالنسبة للعمالة المهاجرة فإنها يجب أن تحصل على منافع عولمة الاقتصاد، سواءً من خلال التحويلات إلى بلدانها وعائلات المهاجرين، أو التمتع بمستوى دخل ومعيشة أفضل، لكن ذلك ليس ما يجري حيث هناك تمييز واستغلال للعمالة المهاجرة، وهناك لا تناسب ما بين زيادة الأجر وزيادة الإنتاجية.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4346 - الخميس 31 يوليو 2014م الموافق 04 شوال 1435هـ