يأخذك الحنين أحياناً لزيارة بعض المناطق في بلادك، مناطق عشت طفولتك على أرضها، أو كنت دائم التجول فيها وزيارة بعض الأهل أو الأصدقاء الذين يسكنونها، فتمرُّ بها بعد أن تكسر حاجز التردد والملل والانشغال بالحياة، الانشغال الذي لا ينتهي ولن يفعل. تمرّ بها لا لحاجة مادية لك فيها ولكن لتشفي فضول ذاكرتك، فتحاصرك أفكارك وأنت في الطريق: من أين أبدأ، ومن أي «زرنوق» أدخل أولاً، وما إن تصل حتى تصدمك الحقيقة ويأخذك الواقع إلى عالمٍ لا يشبه ما تركتها عليه، فتبدو مسخاً لما ألفتها من قبل.
ما إن تدخل مناطق بعينها في المنامة أو المحرق على سبيل المثال لا الحصر، حتى تنال منك الغصة على ما آلت إليه؛ فاللغة التي تسمعها هناك تغيّرت، والوجوه التي تمر بها تبدّلت، والروائح المنبعثة من مطابخ بيوتها بدت غريبة، ولم يبق من واجهات المنازل إلا حبال غسيل عرفت كيف تدلك على هوية المكان، وهوية السكّان من خلال ما عُلِّق عليها من أشكال ملابس لا تنتمي لهذي البلاد.
بعض المناطق التي تحن إليها كلّما داعبتك ذاكرتك وتشاقت عليك، لم تعد كما كانت حين هجرها أهلها وسلّموها بأيديهم إلى الغرباء الذين عرفوا كيف يختارون أماكن تواجدهم بعناية؛ باعتبارها مناطق حيوية قريبة من جميع الخدمات، فصارت مستوطنات للوافدين الآسيويين الذين رتبوا جماعاتهم وكوّنوا لهم «قبائل» لا تقبل دخول غيرهم، وهو الأمر الذي يفسر بعض الشجارات والمشاحنات بين كل فترة وأخرى، حين يفد عليهم جديد لا يعرف قوانينهم.
هذه الأحياء الممتدة في أهم منطقتين من مناطق البحرين، المنامة والمحرق، تشعرك بحجم الهجران الذي تعانيه بمجرد أن تطأ قدماك أرضها؛ فيكون منظرها ناطقاً بغير لسان، فقد توالدت في زوايا منازلها بيوت العنكبوت وكونت الشقوق والشروخ لها منظومة تدل على حالها، في حين امتلأت شوارعها بالبصاق الذي بات عادةً مألوفة لساكنيها، لتكون غريبة عليك وعلى ذاكرتك وعلى أنفسها.
تعلم جيداً أن ظهور مناطق جديدة أكثر رقياً وجمالاً - شكلياً - من هذه المناطق، دفع أهلها لهجرانها، وتأجير بيوتهم على العمال الوافدين، وتعلم جيداً أن الوضع تغيّر، والإنسان تغيّر في بحثه عن الأوسع والأجمل والأنظف، ولكن ومع كل ذلك لابد أن تشعر بالغصة وأنت ترى هذه الذاكرة تموت وتتحول إلى شبح هو الآخر قرّر هجر المكان بعد أن استعصى عليه العيش فيه. تأخذك الحسرة وترحل وأنت تظن بأنك لن تعود مجدداً، قبل أن ينال منك الحنين ويرجعك زائراً غريباً مرةً اخرى.
إقرأ أيضا لـ "سوسن دهنيم"العدد 4342 - الأحد 27 يوليو 2014م الموافق 30 رمضان 1435هـ
كلامك صحيح
الدنيا تغيرت والناس تغيرو يريدون العيش في مكان نظيف. وواسع يتسع لهم ولسياراتهم أما المناطق الذي عشنا طفولتنا فيها راحت او ماتت مع موت آباءنا وأجدادنا