العدد 4340 - الجمعة 25 يوليو 2014م الموافق 27 رمضان 1435هـ

القلعة: تأسيس أول عاصمة تجارية على سيف أوال

مرَّت البحرين بفترة ركود اقتصادي، وذلك بعد القرن العاشر الميلادي؛ حيث إن السيطرة القرمطية أثرت سلباً على الحركة التجارية في المنطقة، وربما ذلك يعود إلى سببين أساسيين، التضييق على الحريات الدينية، والضريبة الكبيرة التي كانت تؤخذ من السفن المارَّة بالمنطقة. بهذه الصورة أصبحت البحرين منطقة طاردة للسكان، حيث هاجر العديد منها، وقد تناولنا ذلك بالتفصيل في سلسلة المواضيع حول تاريخ مسجد الخميس والبلاد القديم. وبعد طرد القرامطة من البحرين بدأت حقبة من الانتعاش الاقتصادي، وبدأت تتميز أربع مناطق متجاورة على الساحل الشمالي لجزيرة البحرين الكبرى. تلك المناطق الأربع تمثل أربعة أقسام ولكل قسم طبيعة معينة، وهي تمثل أربعة مراكز: مركز إنتاج (زراعة وصيد أسماك)، ومركز التحكم في التجارة وبالخصوص الخارجية، ومركز للسلطة السياسية، ومركز يتمتع برمزية دينية.

لقد سبق أن تناولنا بالتفصيل المركز الذي يتمتع بالرمزية الدينية، وهو المشهد أو مسجد الخميس والمنطقة التي تحيط به، وذلك في سلسلة مستقلة. يذكر أن هذه المنطقة تأسست منذ القرن الثامن الميلادي، وسكنتها جماعة دينية من طبقة غنية، والدليل على ذلك وجود فخار سامراء الإسلامي، وكذلك البناء الثاني لمسجد الخميس الذي بني على الطراز السامرائي، وزين عمود الساج الذي يدعم سقفه بزخارف سامرائية. كل هذه دلائل تدل على وجود رأس مال كاف لاستيراد المواد والأيدي العاملة من الخارج، إلا أن هذه المنطقة فقدت شيئاً كبيراً من أهميتها مع دخول حقبة السيطرة القرمطية، لكنها حافظت على رمزيتها الدينية التي استمرت ردحاً طويلاً من الزمن. هذه الرمزية أثرت سلباً على بقية المناطق المجاورة؛ حيث أصبحت البلاد القديم محور الحديث عن البحرين القديمة، ولا يلقى إلا بشيء بسيط من الضوء حول أهمية المناطق المحيطة وكأنها لم تكن. وبهذه الصورة المجتزأة صور بعض الكتاب البحرين القديمة على أنها قرى زراعية، خالية من المدن التجارية، تحيط بالعاصمة القديمة البلاد القديم التي قوامها البحارنة المزارعون، وبقيت كذلك حتى تأسست مدينتا المحرق والمنامة في فترات متأخرة، من قبل المهاجرين الجدد الذين جلبوا معهم الحضارة. بالطبع هذه نظرة قاصرة لما كانت عليه البحرين قديماً، وهو ما سنتطرق له خلال سردنا لتاريخ مناطق البحرين المختلفة.

مراكز الإنتاج

لم يكن هناك مركز واحد للإنتاج، سواء الزراعي، أو البحري، أو المنتجات الأخرى، بل كان هناك العديد منها منتشراً في العديد من مناطق البحرين، ولكن تميز موقع واحد بغزارة إنتاجه حتى شاع ذكره. ونقصد هنا ساحل مني ومروزان التاريخي، والذي ذكر منذ القرن الثاني عشر الميلادي. وقد كان في السابق ساحلاً مليئاً بمصائد الأسماك وبمحاذاته عدد كبير من قطع الأراضي الزراعية التي كانت تساهم بجزء كبير من اقتصاد الدولة وقد تطرقنا لأهميته سابقاً. وعلى هذا الساحل أيضاً، كانت تبنى البيوت المؤقتة، ومواقع سكنى المزارعين. وبمرور الزمن تحول ذلك الساحل لعددٍ من المصايف التي سبق الحديث عنها، والتي بنى فيه أفراد من العائلة الحاكمة قصوراً لهم؛ فبنى الشيخ عيسى بن علي آل خليفة قصراً في السويفية، وفي أبوزيلة بنى الشيخ عبدالله ابن الشيخ عيسى آل خليفة قصراً، أما ساحل الجابور فقد سكن فيه الشيخ إبراهيم بن محمد آل خليفة. أما في الوقت الراهن فقد دفن كل الساحل الممتد من السويفية القديمة إلى الجابور وجرفت المزارع التي تحف به.

مركز السيطرة السياسية

من أقدم المناطق التي سكنت، والتي تشير آثارها لوجود استيطان متسلسل ومتصل منذ حقبة دلمون حتى يومنا هذا، إنها المنطقة الممتدة بين حدود قرية الحجر ونهاية حدود جدحفص، وسوف نتناول هذه المنطقة بالتفصيل في حلقات مقبلة. ويبدو أن منطقة جدحفص أصبحت موضع سكنى السلطة السياسية في الحقب التي تلت حقبة السيطرة القرمطية على البحرين. ومنذ بداية تلك الحقب بدأت هذه المنطقة في التوسع، ونشأ عن ذلك التوسع منطقتان تحيطان بمنطقة الإنتاج المركزية أي ساحل مني ومروزان. فقد توسع الاستيطان باتجاه الشمال الغربي وصولاً إلى الساحل الشمالي، أي أنه يشمل المنطقة الجغرافية التي تعرف حالياً باسم قرية القلعة، وفي هذه المنطقة بنيت أول عاصمة تجارية في البحرين. والتي استمرت حتى بناء قلعة البحرين التي بنيت على جزء من بقايا هذه المدينة.

أما التوسع الثاني فكان باتجاه الشمال الشرقي ووصولاً إلى الساحل الشمالي، حيث بنيت مدينة مسورة ومحصنة هي مدينة المنامة القديمة، والتي بدأ يسكن فيها عدد من التجار، وأصبحت سكناً للسلطة السياسية في حقبة من الزمن.

العاصمة التجارية الأولى

بنيت أول عاصمة تجارية على جزيرة أوال في الحقبة الإسلامية في منطقة قرية القلعة. وتعتبر منطقة القلعة أهم موقع آثاري في البحرين، حيث يوجد بها آثار لعددٍ من المدن المتعاقبة التي تعود لحقبتي دلمون وتايلوس، وبها مراكز التجارة القديمة، وهي أيضاً، محل سكنى حاكم إقليم دلمون. إلا أن هذه المنطقة هجرت في قرابة العام 400م، وأصبحت خالية من السكان، حيث اتجه السكان للمناطق الداخلية الموازية للساحل الشمالي. وبحسب الآثار التي عثر عليها والتي تعود للحقبة ما بعد 400م، وحتى الفترات الإسلامية اللاحقة، فإن أهم المناطق التي سكنت هي المنطقة الممتدة ما بين حدود الحجر وحتى نهاية جدحفص وتشمل كذلك المنطقة المحيطة بمسجد الخميس التي تأسست في الحقبة الإسلامية المبكرة.

تاريخ قرية القلعة أهمل كثيراً، ولم يسلط عليه الضوء، بل إن عمليات التنقيب توقفت في موقع أول عاصمة تجارية والتي بنيت في هذه المنطقة. بهذه الصورة أصبحت المعلومات المنشورة عن هذه المنطقة قليلة، بل إن هناك خلافاً حول تحديد تاريخ تأسيس تلك المدينة وحدودها ومساحتها، إلا أن تلك المعلومات المنشورة كافية لتمكننا من رسم الخطوط العامة لملامح هذه المدينة.

قرية القلعة وآثارها

بحسب الترسيم الجديد لحدود القرى في البحرين، فإن حدود قرية القلعة الحالية هي كالتالي: تحدها من الشرق قرية كرباباد، ومن الجنوب جدحفص وحلة العبد الصالح، ومن الغرب كرانة، ومن الشمال البحر. وقرية القلعة الحالية هي قرية حديثة انتقل إليها سكان قرية القلعة القديمة. وقد كانت قرية القلعة القديمة عبارة عن قرية صغيرة تقع بالقرب من قلعة البحرين، ومنها جاء اسمها، قرية القلعة. ويبدو أن هذه القرية ليست قديمة جداً، وإنما تأسست بعد انتهاء حقبة الحروب التي وقعت في هذه المنطقة، والتي لعبت قلعة البحرين فيها دوراً مركزياً. ويصف لنا Lorimer في دليله هذه القرية في بداية القرن العشرين بأنها قرية تحتوي على 30 عريشاً للبحارنة الذين يعملون بزراعة النخيل، وإنه يوجد بها 1400 نخلة وقليل من الرمان والبرتقال والتمر الهندي واللوز والخوخ والتوت (Lorimer 1908, V.2, p. 225).

ويبدو أن هذه القرية الصغيرة لم يكتب لها أن تتطور، فبعد أن تم اكتشاف وجود آثار قديمة في محيطها وأسفلها، توقف تطور هذه القرية، وبدأت عملية الهجرة والتهجير منها، حتى هُجرت القرية بأكملها في بداية التسعينيات من القرن المنصرم، بعد أن تم تحديد موقع سكنى آخر لأهالي هذه القرية. وقصة انتقال السكان من موقع القرية القديمة إلى الحديثة طويلة، وقد تناول الإعلام المحلي العديد من جوانبها مع التركيز على معاناة سكان القرية القدامى (انظر تحقيق سعيد محمد في صحيفة الوسط بتاريخ 1 يونيو/ حزيران 2009م).

آثار قلعة البحرين، والآثار الدلمونية التي تقع أسفلها تستحوذ على فكر من يتطرق لتاريخ هذه المنطقة، إلا أن هناك آثاراً إسلامية في هذه المنطقة قلَّ ما يتم الحديث عنها، على رغم أن تلك الآثار تمثل آثار أول عاصمة تجارية، وبها سوق مركزية، وكانت مركزاً للنشاط التجاري منذ الحقبة العيونية، وحتى السيطرة البرتغالية. ولكن، ما هي طبيعة هذه المدينة؟ ومما تتكون؟ وما هوية سكانها؟ وما هي الآثار التي عثر عليها فيها؟ هذا ما سوف نتناوله في الفصل المقبل.

العدد 4340 - الجمعة 25 يوليو 2014م الموافق 27 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً