أن يتاح لك عمرٌ مديدٌ لمعاصرة تسعة حكّام في الكويت، وشخصياتٍ كبيرةٍ فاعلةٍ، فأنت شهدت وحضرت وعبرت حوادث وتحولاتٍ ووقائع وبشراً يظل من الصعب على الذاكرة أن تحيط بكل ذلك وأولئك.
ذلك أمرٌ، أمرٌ آخر، الكتابات التي تنهج نهج التوثيق والرصد للعائلة، اعتماداً في جانبٍ على وثائق من جهة، أو الاستناد إلى الشفهي مما يسرد. البعض يحتفظ بذلك السرد بالصوت والصورة إذا أتيحت الأخيرة. تظل دقة ما يسرد محل أخذٍ وردٍ. الذاكرة لا تكون وفيةً دائماً. لا تكون دقيقةً بمعنى أدق.
هذا التوجه في الكتابة، له وعليه. له حين لا تهمل الكتابة تلك مجموعة الأحداث والوقائع والبشر والتحولات، وتكون في المركز من تلك الكتابة؛ أو على الأقل لها حيّزها المعتبر. وعليها حين تتحول إلى أرشيفٍ لا روح فيه؛ فيما يشبه اليوميات التي لا تغني ولا تسمن من جوع. وبالعربي الفصيح: لا تحقق إضافةً لا على مستوى الكتابة ككتابة، ولا على مستوى التأريخ والرصد.
الكتاب الذي بين أيدينا «لقاء مع التاريخ» للكاتب الكويتي محمد عبدالهادي جمال، الصادر في العام 2012، ولا يوجد اسمٌ لدار النشر، فقط الإشارة إلى أن الفهرسة تمت أثناء النشر من قبل مكتبة الكويت الوطنية، فيه الكثير من الكتابة التي لها وطبعاً لا كتاب أو كتابة لا يوجد ما هو عليها!
ما عليها أن وظيفة شخصية الكتاب هي سرد الوقائع، وخصوصاً تلك التي تمثل أهميةً وتحولاً في تاريخ الكويت، من دون أن نعرف الدور الذي لعبته تلك الشخصية.
حوادث وتواريخ متفرقةٌ، تبدو أحياناً غير متناسقةٍ وغير مرتبةٍ؛ سواءٌ من حيث فتراتها أو جهة الفاعلين فيها، وأحياناً بإقحام شخصياتٍ وحوادث ليست منسجمة حتى على مستوى التبويب في الكتاب، والمنهج الذي كان من المفترض أن يتحراه الكاتب من حيث تحريه لدقة وتفاصيل ما ورد من معلوماتٍ، وخصوصاً أنه أشار في مقدمة الكتاب إلى «أن موضوع كتابي هذا هو تدوينٌ لمعلوماتٍ تتعلق بكثيرٍ من الموضوعات استقيتها من خلال مقابلاتٍ عديدةٍ أجريتها مع شخصيةٍ من عامة المواطنين...» إلى أن يقول: «وفي سنواته العشر الأخيرة (أي كان في التسعين من عمره) أو قبل ذلك بسنتين أو ثلاث»! (لا ندري نحن أيضاً كيف نطمئن إلى دقة كل ما جاء في الكتاب على رغم التشويق الذي يكتنز به؟!)، ويكمل «بدأت التسجيل لعددٍ من تلك الجلسات التي كانت تعقد يومياً تقريباً في محاولةٍ مني لتوثيق تلك المعلومات الثمينة التي تخص الكويت والمجتمع والعائلة». بالملاحظات الثلاث: (في التسعين... الكاتب لم يكن متأكداً (وفي سنواته العشر الأخيرة... في الفقرة سالفة الذكر)، وهو طبعاً بذاكرةٍ أكثر شباباً من الشخصية التي وضع الكتاب لها، والهدف من الكتاب هو التوثيق، بما يتطلبه من دقةٍ ما وسع الأمر).
الشخصية التي يتناولها الكتاب (جد الكاتب)، الحاج إسماعيل علي إسماعيل جمال، المولود في العام 1310هـ (1891م)، وعاصر تسعةً من حكّام الكويت هم على التوالي: الشيخ عبدالله الثاني بن صباح (توفي العام 1892)، والحاج إسماعيل في سنته الأولى. الشيخ محمد بن صباح (توفي العام 1896) وكان الجدُّ في سن الخامسة، بحضور الإدراك، لكن ليس كل ما يدرك يقّر! الشيخ مبارك بن صباح (توفي 1915)، الشيخ جابر المبارك (توفي العام 1917)، الشيخ سالم المبارك (توفي العام 1921)، الشيخ أحمد الجابر (توفي العام 1950)، الشيخ عبدالله السالم (توفي العام 1965)، الشيخ صباح السالم (توفي العام 1977)، والشيخ جابر الأحمد الصباح (توفي العام 2006).
بعد أن يتناول المؤلف نسب الشخصية من جهة والديه، ومكان مولده ووصفاً للحي الذي ولد فيه، يعرّج على أولى رحلاته خارج الكويت إلى ميناء معشور الإيراني في العام 1897، رفقة خال والده، عبدالله بن جمال لخطبة فتاةٍ لابنه منصور، وسفره إلى العراق مع والدته لزيارة العتبات المقدسة وكان في الحادية عشرة من عمره (1902)، في عهد العثمانيين. ويتطرق المؤلف إلى ذكر العملات المستخدمة في الكويت وهي «المجيدي» العثماني، ليبلغ مرحلة التعليم الذي تلقاه الحاج إسماعيل بدءاً بالكتاتيب ووصولاً إلى المدارس بهيئتها ونظامها في ذلك الوقت. الكتاب يتضمّن معلومات وتفاصيل خاصةً، ضمن مساحةٍ منه، ربما لا تعني القارئ، حَرَصَ المؤلف عليها وكأنها جزءٌ من حياةٍ مديدةٍ من المفترض أن الكتاب يسعى إلى تقديم عصارتها إلى القارئ توخياً للاستفادة والنظر. الكتاب محشوٌّ بتفاصيل من المفترض إذا كان ولابد من الإشارة إليها أن يُفْرَدَ لها هامشٌ في نهاية الكتاب. والباعث على ذكر هذه الملاحظة أن الكتاب يحفل بتفاصيل لأحداثٍ مهمةٍ ومفصليةٍ في ذلك التاريخ؛ ما خلق إرباكاً وتشويشاً في تلك القفزات التي حفل بها الكتاب على سبيل المثال من «هدم الديوانية وتوسعتها» أو «شراء بيت العريفان المجاور وضمه إلى البيت» وغيرها، وبعد فصولٍ يتحدث فيها عن غزوات وهجمات الإخوان على الكويت من حدودهم في المملكة العربية السعودية، وبناء السور!
في الكتاب ذكر لمواد البناء وأنواعها التي عرفتها الكويت في تلك الفترة، يعدّدها المؤلف، ويشير إلى أن الأسمنت عرفته الكويت في عهد الشيخ مبارك الصباح (توفي (1915) «وجاء للمرة الأولى إلى الكويت من روسيا، وكان معبأ في درامات مصنوعة من الخشب».
الكتاب بالقدر الذي اعتمد فيه على منهج الفصول، ذهب إلى العناوين الفرعية، والتي هي بلا شكٍ بمثابة استراحةٍ تتيح للقارئ التقاط أنفاسه؛ ولكنها بدت في كثير منها غير متجانسةٍ في طبيعة الموضوعات من حيث ترتيبها، وأحياناً غير متجانسةٍ في نطاقها الزمني.
خيزرانة محمد المتروك
حفل الكتاب بقصصٍ طريفةٍ، أحد أطرافها محمد المتروك، يوردها المؤلف من ذاكرة جدّه: «يذكر الحاج إسماعيل قصةً طريفةً وقعت في إحدى الليالي في مزرعة والده في حولّي، فيقول، كان فريق الكوت مندمجاً في اللعب وكان من بين اللاعبين المرحوميْن الشيخ علي الخليفة (كان رئيساً للأمن العام في الكويت في تلك الفترة وتوفي العام 1942)، والشيخ سالم الحمود والشيخ سلمان الحمود ومحمد المتروك وعلي إسماعيل جمال. وكان محمد المتروك إذا لعب الكوت «يغيّب» كما يصفه الحاج إسماعيل، أي يندمج بصورةٍ كاملةٍ باللعب بحيث لا يشعر بمن حوله. وكانت معه في تلك الليلة خيزرانةٌ طويلةٌ وضعها بجانبه أثناء اللعب، وكان يجلس بجانبه الشيخ علي الخليفة وهو من الفريق المضاد، وكان علي الخليفة ضخم الجسم كبير الأفخاذ كما يصفه الحاج إسماعيل. وفي أثناء اللعب انفعل محمد المتروك من شدة الحماس فأمسك بالخيزرانة وبدون شعور ضرب الشيخ علي الخليفة ضربة قوية على فخذه دون أن يحس أو يشعر من كان بجانبه، وبعد ذلك بلحظةٍ أحس بما صنع فاعتذر من الشيخ علي الخليفة وقبّله فقبل الشيخ الاعتذار».
ومحمد المتروك من البحرينيين الذين هاجروا إلى الكويت، ولا أعلم صلته بالوجيه والشاعر الكويتي المعروف علي المتروك. وهو، كما يذكر مؤلف الكتاب «من كبار تجّار منطقة الوسط وشريكٌ للمرحوم عبدالمحسن الخرافي، وله مكاتب تجارية في البصرة والمحمّرة، وكان يقضي كثيراً من وقته لمتابعة تجارته عن طريق مكتبه في البصرة. كما كان صاحب أول بنايةٍ أسمنتيةٍ بنيت في الكويت على ساحل البحر، مقابل الفرْضة مشاركةً مع المرحوم عبدالمحسن الخرافي».
ولائم الجراد!
من التفاصيل التي يذكرها مؤلف الكتاب، تقريباً ما كان شائعاً في عديدٍ من دول الخليج، تتعلق بالجراد وتعامل الناس معه، في وقتٍ كانت المنطقة تعاني فقراً هو أول سماتها، وخصوصاً قبل اكتشاف الثروة النفطية، ومحدودية المواد الغذائية التي كان يتم استيرادها من الهند وإيران والعراق وبعض الدول، واعتماد الناس في كثير من أقواتهم على ما هو متاح في البيئة نفسها في تلك الفترة، إلا ما ندر لدى بعض البيوتات الثرية.
يشير الكتاب إلى أنه «كانت كمياتٌ هائلةٌ من الجراد تتوجه في الماضي إلى الكويت فتحول البلاد إلى وضعٍ غير طبيعيٍ، حيث تغطي تلك الأفواج السماء، وتحجب الشمس من كثرتها وتخلق جواً يمتزج بالفرح لدى الأطفال وشباب الفرجان، والفزع لدى أصحاب المزارع من الخسائر التي تنتظرهم. فمن جهةٍ يتهيأ الأهالي لصيد أكبر كمياتٍ ممكنةٍ لطبخه وأكله، بينما يتوجه الأطفال والنساء إلى السطوح لصيد أكبر كميةٍ منه».
يبدأ الفصل الخامس من الكتاب الذي حمل عنوان «شخصياتٍ في ذاكرة الحاج إسماعيل»، بالشيخ مبارك الصباح؛ والفصل هنا يستقي معلوماته من الذاكرة (سمعاً) وليس معاينةً وحضوراً، وذلك ما يشير إليه «وكان الحاج إسماعيل قد سمع كثيراً عن الشيخ مبارك الصباح وطموحاته وعلاقاته مع جيرانه والمشاكل التي واجهها بعد تسلمه الحكم ولجوئه للإنجليز لعقد معاهدة الحماية معه بعد أن نصحه صديقه الشيخ خزعل حاكم المحمّرة بالإقدام على ذلك».
ومن الذاكرة نفسها يورد المؤلف قصة توقيع اتفاقية الحماية بالنص «اشتد الضغط على الشيخ مبارك الصباح بعد تسلّمه الحكم من قبل عدّة جهات كان في مقدمتها السلطنة العثمانية، وعبدالعزيز بن رشيد والبدر ويوسف آل الإبراهيم الذي لم يترك له وسيلة إلا اتبعها في سبيل زعزعة حكم الشيخ مبارك، كان في مقدمتها تأليب العثمانيين عليه والتعاون مع عبدالعزيز بن رشيد لمحاربة الشيخ مبارك. كما عمل على تجهيز حملةٍ جهّز لها عدداً من السفن التي تحمل أعداداً كبيرةً من المحاربين الذين جمعهم لغزو الكويت. لكن مرور إحدى السفن الكويتية ومشاهدتها لسفن يوسف الإبراهيم أنقذت الكويت، حيث توجّه صاحب السفينة الكويتية - وهو المرحوم علي بوكحيل - إلى الكويت بعد أن تم إلقاء القبض عليه من قبل سفن الإبراهيم ثم إطلاق سراحه بعد أخذ تعهّد منه بعدم إبلاغ الشيخ مبارك بالموضوع...». إلى أن يذكر «كما اشتدت المطامع العثمانية في الكويت في عهد الشيخ مبارك وتم إرسال سفينة تركية إلى المياه الكويتية للضغط على الشيخ مبارك؛ ما أدى إلى اقتناع الشيخ مبارك بنصيحة الشيخ خزعل، وإلحاحه على ضرورة عقد معاهدة مع بريطانيا لحماية الكويت من الأخطار الخارجية، فأرسل أحد العاملين لديه وهو علي عبدال إلى بوشهر يرافقه الحاج ماتقي آل غالب، الذي كان من تجّار السلاح لمقابلة أخيه الحاج نجف آل غالب، الذي كان يتخذ ميناء بوشهر مقراً لإدارة أعماله، والطلب إليه الاتصال برئيس الخليج (المندوب السامي البريطاني في الخليج) الذي كان يتخذ من بوشهر مقراً له، وإعلامه بأن الشيخ مبارك مهدد من قبل الأتراك، ويرغب بمساعدة بريطانيا، وعقد اتفاقية حماية معها، وكان الحاج نجف ذا علاقةٍ وطيدةٍ مع رئيس الخليج، فاستقبل الحاج نجف علي عبدال والحاج ماتقي ورحب بالفكرة ورافق الاثنين لمقابلة رئيس الخليج، وعرضوا عليه رغبة الشيخ مبارك في توقيع المعاهدة فسارع إلى قبول الطلب وقام باتصالاته حول الموضوع، ثم عاد الوفد إلى الكويت ومعه الموافقة على عقد الاتفاقية، وكان ذلك في العام 1899م (1317هـ)».
يحوي الكتاب في الفصل الخامس شخصياتٍ يسرد المؤلف جانباً من دورها والحوادث، اعتماداً على ذاكرة جدّه إسماعيل: فترة لجوء آل سعود إلى الكويت، الملك عبدالعزيز آل سعود، الشيخ جابر المبارك الصباح، الشيخ سالم المبارك الصباح، وفترة بناء سور الكويت، وعودة إلى الشخصيات: الشيخ أحمد الجابر الصباح وعبدالكريم أبل، والذي كان من كبار تجار الكويت، وهو في الوقت نفسه كان أمين الصندوق للشيخ أحمد، يحفظ أمواله في منزله قبل افتتاح البنك البريطاني في الكويت العام 1942. ويورد الفصل نفسه مساحةً للشيخ خزعل بن مرداو، والذي كان يحكم منطقةً كبيرةً من شمال الساحل الإيراني والمناطق الداخلية والقريبة منه، مشيراً إلى علاقة الصداقة التي كانت تربطه بالشيخ مبارك، وزياراته المستمرة إلى الكويت التي يقضي فيها أحياناً شهرين أو أكثر كل عام، وخصوصاً في فصل الربيع، ما دفعه إلى بناء بيتٍ له في بيان بالقرب من أرض الشيخ مبارك الصباح. ومن الشخصيات التي يوردها، الشيخ موسى بن محمد المزيدي، الذي قدم إلى الكويت من الحلّة في مطلع القرن التاسع عشر الميلادي بعد أن اتصل رجال الشيعة في الكويت بمراجعهم في النجف طالبين إليهم إرسال عالم دينٍ مقيمٍ بينهم ليرشدهم ويعلمهم أمور دينهم، وابنه الشيخ محمد بن موسى المزيدي، الذي حل محل أبيه بعد وفاته، والسيد مهدي الموسوي القزويني، الذي قدم إلى الكويت كمرجعٍ دينيٍ للشيعة العام 1908، والسيد جواد الموسوي القزويني، وينتهي الفصل الخامس بآل قاسم، وكانوا من كبار عائلات منطقة الوسط.
وينهي محمد عبدالهادي جمال الكتاب بالفصل السادس ويتناول السنوات الأخيرة لجدِّه، واستمرار النشاط الاجتماعي والتواصل مع رفاق الدرب الأوائل. الكتاب تضمن صوراً عديدةً لبدايات الكويت وبعض الشخصيات التي أشار إليها الكتاب.
وأُلحِقَ بالكتاب مخططٌ تقريبيٌ للبيوت السكنية في منطقة وسط مدينة الكويت خلال فترة منتصف القرن العشرين، بحثها وأعدّها مؤلف الكتاب.
يُذكر، أن مؤلف الكتاب من مواليد مدينة الكويت في العام 1942. حصل على البكالوريوس من جامعة ولاية كولورادو الأميركية، قسم التجارة العام 1967. كما حصل على شهادة الماجستير من الجامعة الأميركية في بيروت - برنامج إداة التنمية العام 1971. عمل في إدارة التخطيط ومصفاة الشعيبة بشركة البترول الوطنية الكويتية خلال الفترة 1968-1972. عمل بمكتب التسويق العالمي التابع إلى شركة البترول الوطنية الكويتية في لندن خلال الفترة 1972-1974. يعمل في بنك الكويت الصناعي منذ العام 1974، ويشغل الآن وظيفة المستشار العام لإدارة المشاريع. سبق أن أنجز سبعة مؤلفاتٍ: «الكويت وأيام الاحتلال» (1992)، «تاريخ الخدمات البريدية في الكويت» (1994)، «تاريخ العملة والنقود في دولة الكويت» (1999)، «أسواق الكويت القديمة» (2001)، «الموانئ الكويتية بين الأمس واليوم» (2002)، «الحِرَف والمهن والأنشطة التجارية القديمة في الكويت» (2003)، و «طوابع البريد العربية في قرنٍ ونصف» (2004).
العدد 4340 - الجمعة 25 يوليو 2014م الموافق 27 رمضان 1435هـ