يبدو أن الطريق إلى جنة السماء والأرض لم يعد بالضرورة مسيجا بالعنف ومفروشا بالدم، على الأقل بالنسبة لإسلاميي التوافق بالمغرب الذين يفترش عددٌ لا بأس به من قيادييهم كراسي البرلمان المغربي. ليس الأمر وليد الأمس القريب، فثمة عقود ثلاثة تفصلنا عن زمن الشبيبة الإسلامية سليلة نهج الإخوان المسلمين بالمغرب، سالت خلالها مياه كثيرة تحت الجسور التي عمل الأمين العام للحزب بنكيران ومن معه على تشييدها مع الواقع السياسي في بلد أمير المؤمنين.
اليوم لم يعد لدى جيل العدالة والتنمية ما يربطه بجيل أتباع حسن البنا في مصر العشرينيات وأتباع جيل المودودي في باكستان الأربعينيات. تسمية الإسلاميين التي تحيل على التنوع والاختلاف أكثر مما تحيل على الاتساق والتناغم. إسلاميو بنكيران اليوم يعقدون المؤتمرات الحزبية في القاعات العمومية المفتوحة بدلا من الحلقات السرية في المنازل المغلقة التي كان يعقدها سابقوهم وبعض من قياداتهم، ممن ينحدرون من جيل شبيبة السبعينيات ويضعون برامج انتخابية قد تقودهم إلى كراسي السلطة بدل مخططات جهادية كان من المفترض أن تقودهم إلى جنة الخلد. مدجنون وفق منطق خصومهم، وواقعيون وفق منطق مناصريهم. إسلاميو التوافق هم اليوم حزب في مملكة أمير المؤمنين. الدولة الإسلامية قائمة في المغرب... فما الداعي إلى إعادة ابتكار العجلة؟
ككل الأنساق الممكنة، قد لا يخلو نهج إسلاميي التوافق من بعض المعقولية، وفق نظر مبدعيه ومن يناصرهم على الأقل. فماذا يتبقى لك لتفعله حين تكون من تعتقدها ورقتك الرابحة قوة ضاربة في يد خصمك؟ وهل كان عبدالكريم مطيع معلم بنكيران وإخوانه جادا حين أعلن الثورة الإسلامية قدرا للمغرب؟ ألم يكن الإسلام قدرا للمغرب منذ مجيء الأمير العلوي إدريس الذي لم تكن له من مقومات بناء الدولة سوى شرعية دينية قابلة للانتقال عبر النطفة بما يجعل من مقولة عاش الملك، مات الملك ناموسا لتاريخ المغرب السياسي والديني؟
ثم أليس هو نفسه المغرب الذي قامت الدول التي حكمته وتكسرت على نصال الإسلام. المغرب حيث تلتبس السياسة بالدين منذ الأزل وحيث رأى جون واتربوي أن المقدس واليومي يجري تدبيرهما من خلال شخصيتين اثنتين رئيس الدولة وأمير المؤمنين، لكن الاثنين يتجسدان في شخص واحد هو الملك. فماذا كان لدى ربائب البنا وسيد قطب من جديد ليواجهوا به سلطة وهيبة أمير المؤمنين المشيدة على أساس نسق قوي البنيان يتداخل فيه الشعبي بالرسمي بالتقليدوي.
لقد وضع نهج مطيع الحركة الإسلامية المغربية في خضم أزمة هوية تتجاوز آليات الفعل ورد الفعل إلى جدوى الوجود نفسه. الإسلاميون منفذو مشيئة الله في الأرض، وأمير المؤمنين ظل الله على الأرض، لكن الله واحد والأرض واحدة، فلا مناص من أن يؤمن أحدهما على الأقل بسطوة الآخر.
وفق هذا كله لم يكن من الممكن لمجموعة بنكيران هويتها الخاصة وأساس وجودها إلا من خلال حسمها لموقفها من إشكالية إمارة المؤمنين بالمغرب. فقد خيم فراغ نظري هائل على أدبيات جمعية الجماعة الإسلامية التي غطت فترة الثمانينيات من مسار إسلاميي التوافق. وكانت بداية الطريق ولادة جديدة للجمعية المذكورة أريد لها أن تكون محملة بالعبر.
فمقولة الإصلاح والتجديد التي اتخذت اسما للحركة في نهاية الثمانينيات تبدو صادمة حين تصدر من حركات ماضوية رامت طيلة تاريخها تأصيل الحاضر باسم الماضي وإعادة صياغته وفق رؤى السلف الصالح، إلا إذا كان هؤلاء قد راجعوا تاريخهم وتحرّروا من اواليات الخطاب الإسلامي في نسخته الكلاسيكية التي تحيل على أدبيات البنا والمودودي وسيد قطب. فكان أن ترك الإخوان أمر السماء لأمير المؤمنين وسعوا في الأرض كمن سبقهم من مختلف المشارب والطوائف.
وفق منظري أطروحة فشل الإسلام السياسي فحالة إسلاميي التوافق لا تعدو أن تعزز القاعدة: فشل الإسلاميين المريع في تحقيق الجنة التي وعدهم الله بها على الأرض ووعدوا بها أنصارهم منذ بدايات القرن الماضي، فالأنظمة المصنفة كافرة من قبل جيل المؤسسين قد أضحت واقعا ممكنا للاشتغال وفق قاعدة «أخف الضررين»، والجنة الموعودة أضحت كراسي السلطة المسيجة بالتوافقات والتنازلات. وفق من لازالوا يؤمنون بقدرة التيار الإسلامي على انتشال الأمة من متاهات التيه، فإسلاميو التوافق في مكانهم الصحيح. النظام المغربي حكم طويلا من دون الإسلاميين حين كان له الخيار، لكنه يحكم اليوم بمعية الإسلاميين حين لم يعد لديه الخيار، والتأثير من الداخل أيسر وأسلم، والتنازل عن مطلب أسلمة الدولة لا يلغي الرغبة والتوجه القائمين حول مطلب أسلمة المجتمع.
إن الإسلاميين وفق هذا التوجه في أقوى حالاتهم، فالنظام بكل تاريخه وشرعيته يفاوض معهم ويقتسم بمعيتهم تدبير شئون السماء والأرض. أما بالنسبة لمن ناصبوهم العداء، فالإسلاميون هم الإسلاميون، ولا شيء تغير على الإطلاق. كل ما هناك أنهم أضحوا أكثر مناورة وقدرة على تحقيق المكاسب بأيسر وأسهل الطرق، وواهمٌ من اعتقد بإمكانية تنازل هؤلاء عن جنتهم الموعودة.
*باحث مغربي في الحركات الإسلامية بجامعة مونتريال بكندا، والمقال يُنشر بالتعاون مع «مشروع منبر الحرية www.minbaralhurriyya.org»
إقرأ أيضا لـ "منبر الحرية"العدد 2490 - الثلثاء 30 يونيو 2009م الموافق 07 رجب 1430هـ