أقام العرب في الأندلس أفضل دولة في تاريخهم. وقدّموا أفضل تجلٍّ للحضارة العربية الإسلامية، وكانت درة الحضارات في وقتها، مستندةً إلى مجتمع متسامح ومنفتح ومبدع، حيث تعايش فيه المسلمون والمسيحيون واليهود. وعندما تزور الأندلس تشعر بعظمة هذا الإنجاز، ولذلك يفخر الإسبان وخصوصاً الأندلسيين بهذا الإنجاز ويعتبرونه مكوناً أساسياً في حضارتهم وثقافتهم.
لكن هذا الإنجاز الرائع تهاوى بفعل عاملين، أولهما صعود القوة الإسبانية المسيحية المتعصبة بتحالف الملك فرديناند والملكة إيزابيلا؛ والثاني هو تفتت الدولة الأموية إلى إمارات متحاربة فيما عرف حرب الطوائف، وهو ما استغله الأسبان في الإجهاز على هذه الإمارات واحدةً بعد أخرى، مستفيدين من الصراعات فيما بين هذه الإمارات، بتحييد هذه، وعزل تلك، والإجهاز على تينك. وبات العرب يتحسرون على المجد الضائع في الأندلس جيلاً بعد جيل.
واليوم تتكرّر المأساة العربية وعنوانها غزّة، لكنها عنوان لحالة عربية أسوأ مما كان عليه العرب في زمن الانكسار في الأندلس. غزة تقاتل اليوم الغول الصهيوني دفاعاً عن شعبها وهي مثخنة بالجراح ووحيدة، رغم كثرة الضجيج وصرخات الاستنكار من قبل، ليس فقط الحكام العرب، بل أيضاً نخبهم ومعارضاتهم.
غزة وحيدة، والشعب الفلسطيني وحيد الآن، والعرب منغمسون في حروب التدمير الذاتي من المحيط إلى الخليج، فحتى في البلدان التي ليس فيها حروب أو اشتباكات ومثالها المغرب، فإنها تشهد مناكفات سياسية خرقاء ما بين الحكومة والمعارضة.
الحرب الأهلية حامية الوطيس في ليبيا والعراق والسودان واليمن وسورية، ولم تتوقف حتى لهدنة في شهر رمضان وهو ما كان يحترمه العرب في عهد الجاهلية فأصبحنا في جاهلية أكثر فجاجة.
وعدا الحروب الأهلية، هناك قتال متقطع في لبنان وتونس ومصر، وعمليات إرهابية في أكثر من بلد عربي، وبالطبع عمليات قمع في غالبية البلدان العربية إثر تداعيات أحداث «الربيع العربي».
إني لا أعجب من أنظمة عربية تستنكر العدوان الصهيوني على الشعب الفلسطيني وهي تمارس العدوان على شعوبها، بل أعجب من نخب عربية انتقائية في استهدافها لأنظمتها القمعية، وهي حقيقة، لكنها تسكت عن استهداف أنظمة عربية لشعوبها، ولذا تهاوى التضامن العربي الشعبي، بعد أن تهاوى التضامن العربي الرسمي... فهل من صحوة ضمير؟
إذا استمرت عملية التدمير الذاتي العربي بالحروب والاقتتال والقمع والإرهاب، فإن الوطن العربي كله سيتحوّل إلى صومال خرافي، يعمّه الخراب واليباب. هل سمعتم في أية حرب أهلية، يتم فيها قصف المطار المدني وتدمير ما فيه كما جرى في طرابلس؟ هل سمعتم في كل الحروب الأهلية، أن يتم تدمير أماكن العبادة والأماكن الأثرية ذات القيمة التاريخية، وتنسف القبور؟
هذا لم يحدث حتى في البوسنة والهرسك بالحجم ذاته حيث كان الصراع دينياً، مسيحياً إسلامياً، وقومياً تعصبياً أيضاً، في حين أن المعتدي هنا يدّعي الإسلام، والضحية مسلم أيضاً.
هل سمعتم عن إعدام الأسرى والسكّان المسالمين ونحرهم بالسيوف، في مشاهد همجية بشعة تقشعر لها الأبدان؟ هل سمعتم عن تهجير السكان وسبي النساء واسترقاق الرجال في القرن الحادي والعشرين؟
وعلى رغم هذه الأعمال البشعة في دولة الخلافة المعاصرة، فإن التأييد لذلك علني ومن على المنابر ووسائط الإعلام والفضائيات العربية دون رادع.
الجامعة العربية، أو «بيت العرب» المزعوم، تحوّلت إلى جثة هامدة. مجلس الأمن اجتمع قبل اجتماع مجلس الجامعة ليناقش حرب الإبادة الإسرائيلية ضد الشعب الفلسطيني، وكما يقول المثل: تمخّض الجبل فولد فأراً، مناشدة لمجلس الأمن والدول الكبرى لتقوم بمسئوليتها لحماية الشعب الفلسطيني وإيقاف العدوان الإسرائيلي! وماذا إذاً عن مسئوليتكم أنتم؟
والأنكى أن الأنظمة العربية تمنع شعوبها حتى عن التظاهر للتضامن مع الشعب الفلسطيني واستنكار الإرهاب الصهيوني والتواطؤ الأميركي. والعكس تماماً، فالعديد منهم يلوم «حماس»، لأنها جلبت المصائب في نظرهم على الشعب الفلسطيني ورفضت العرض المصري لوقف إطلاق النار، ما يتيح نزع سلاح المقاومة، وإعادة إنتاج الأزمة. ماذا نقول غير ما قاله شاعر العرب وضميرهم مظفر النواب وهو يخاطب العرب المتفرّجين على مأساة فلسطين:
«اتركوها، تشد ظفائرها، وتنزل حملها الدامي، سيكون خراباً، هذا العالم بحاجةٍ إلى درس في التخريب».
إن الأنظمة العربية ونخبها تهيئ الأوضاع لموجةٍ قادمةٍ من الثورات والانقلابات العسكرية، كتلك التي تبعت هزيمتهم في فلسطين واغتصابها في العام 1948، لكنها ستكون أكثر ضراوة، بعد أن فقدت ما تبقى من شرعيتها، فهل يتدارك العرب، أنظمةً ومعارضات ونخباً، الوضع قبل أن يعم الخراب، وهذه المرة سيكون خراباً هائلاً؟
ها نحن نرى مقدماته في الحروب الأهلية العربية المنفلتة، والتي استباحت القيم العربية والإنسانية، وأعراف الحروب وضوابطها.
إقرأ أيضا لـ "عبدالنبي العكري"العدد 4337 - الثلثاء 22 يوليو 2014م الموافق 24 رمضان 1435هـ
مشاهد همجية بشعة تقشعر لها الأبدان
في سنة 2021 سوف تمتلئ حدائق الحيوان بالعرب ليس ليشاهدوا الحيوانات بل لحمايتهم من الإنقراض