منذ نصف قرن أو يزيد، تعيش غزّة العدوان تلو العدوان، ويحلّ بها الدمار محلّ العمار. لكنّ غزّة الحاضر، غزّة العدوان والتدمير، ما هي إلا امتداد لغزّة الماضي، غزّة البنيان والتعمير؛ ففي قطاع غزّة من الآثار العمرانية الإنسانية الخالدة ما يجعلها قبلة السائحين في العالم؛ فقطاع غزّة جزء من الأراضي الفلسطينية المقدسة حيث يزخر بالعديد من المقدسات الإسلامية والمسيحية والأماكن الدينية والتاريخية.
ومن أهم هذه المعالم الأثرية التاريخية التي شادتها يد الإنسان على مرّ الزمان نذكر القصور الأثرية الخمسة المكتشفة في تل العجول جنوب مدينة غزّة والتي تعود إلى 3000 سنة ق.م، كما ينجذب زائر القطاع إلى دير القديس «هيلاريوس» الذي يعود إلى القرن الثالث الميلادي، وهو أقدم دير لايزال قائماً في فلسطين، إضافة إلى كنيسة الروم الأرثوذكس أو كنيسة القديس برفيريوس، وهي تقع في أحد أقدم الأحياء الشعبية بغزّة وهو حي الزيتون، وقد بنيت هذه الكنيسة بين عامي 402 و407م. ويشدّ السائحَ أيضاً، تلك الأرضيّات الفسيفسائيّة التي تقع قرب ميناء غزّة، والتي تزيّنها رسوم حيوانيّة وطيور وكتابات يرجع تاريخها إلى بداية القرن السادس الميلادي.
وفي صدر الفتوحات الإسلاميّة أصبحت غزّة المدينة الساحلية، والتي فتحها القائد العربي المسلم عمرو بن العاص، مركز القطاع الذي يحمل اسمها؛ فمع الحضارة الإسلامية، شيدت العديد من المعالم التي لاتزال تحكي إرادة الإنسان في البناء والتعمير رغم أيادي الغدر والتدمير التي تطال هذه المعالم الإسلاميّة. وانظرْ إلى الجامع العمري الكبير، نسبة إلى الخليفة الثاني عمر بن الخطاب رضي الله عنه، تجدْ مصداق ما نقول؛ فالجامع العمري بمئذنته الرشيقة، هو أكبر المساجد الأثريّة وأهمّها في قطاع غزّة، حيث تبلغ مساحته الإجماليّة 3,500 م2 فيما تبلغ مساحة البناء 1800 م2 ويتسع لأكثر من ثلاثة آلاف مصلّ. وكذلك مسجد النصر في بيت حانون لا يزال يحكي آثار العصر الأيّوبي، فقد بني سنة 637 هـ إثر هزيمة الفرنجة أمام المسلمين فكان مسجد النصر تخليداً لذكرى نصر المسلمين في هذه الموقعة.
وغير بعيد، مسجد السيد هاشم الذي يقع بحي الدرج «مدينة غزّة القديمة»، فهو من أجمل جوامع غزّة الأثرية وأكبرها، وفيه ضريح السيد هاشم بن عبد مناف، جد رسول الله محمد (صلى الله عليه وسلم)، الذي توفّي في غزّة أثناء رحلته التجارية «رحلة الصيف»، وقد أنُشِئ المسجد على يد المماليك، وسميّت مدينة غزّة «بغزّة هاشم» نسبة إليه.
ولا تفوت الزائرَ الزاويةُ الأحمديّة التي تقع في حي الدرج، والتي أنشأها أتباع السيد أحمد البدوي في القرن السادس الهجري، وكذلك جامع الشيخ زكريّا الذي يقع بنفس الحيّ والذي أنشئ في القرن الثامن الهجريّ، وجامع كاتب الولاية في حيّ الزيتون، وجامع عليّ بن مروان في حيّ التفاح وهما يعودان إلى العصر المملوكيّ. ولا تسأل عن جامع ابن عثمان في حيّ الشجاعيّة فهو أحد أكبر المساجد الأثريّة ونموذج رائع للعمارة المملوكية بعناصرها المعماريّة والزخرفيّة المميّزة.
ومن المساجد إلى الأسواق، حيث سوق القيساريّة الذي يقع في حيّ الدرج بمحاذاة الجامع العمريّ الكبير، ويعود بناؤه أيضاً إلى العصر المملوكيّ. وكذلك قلعة خان يونس أو «قلعة برقوق» والتي شيّدها الأمير يونس بن عبد الله النوروزي دوادار كاتب السلطان المملوكيّ الظاهر برقوق في العام 789هـ. وأخيراً وليس آخراً، سبيل السلطان عبد الحميد أو سبيل الرفاعيّة الذي يقع في حيّ الدرج، وهو عبارة عن دخلة يتقدّمها عقد مدبب على جانبيه مكسلتان يتصدّر دخلته فتحات كانت مزوّدة بأقصاب لسحب الماء من حوض السبيل سقاء للناس.
لكن غزّة، منذ أكثر من نصف قرن، مرّت بأحداث جليلة بدءاً بعدوان 1956، مروراً بالاحتلال عام 1967؛ فقد كانت غزّة آخر بقعة من أرض فلسطين التاريخيّة يحتلّها الصهاينة، نظراً لاستبسال أهلها، وقدرتهم على الصمود والتحدّي... ثم كانت الانتفاضة الأولى فالانتفاضة الثانية التي كانت أهمّ نتائجها جلاء المحتلّ الصهيونيّ عن قطاع غزّة دون شرط يقيّد المقاومة الفلسطينيّة.
وبعد الانتخابات الفلسطينيّة التي فازت بها حركة حماس، توالت التهديدات على القطاع، وفي قلب الحصار كان العدوان على غزّة العام 2008-2009، والذي اصطلح على تسميته فلسطينيّاً بـ «معركة الفرقان» وصهيونيّاً بـ «عملية الرصاص المسكوب»؛ فقد دمّر هذا العدوان البنيان العتيد وقتل من أبناء القطاع العدد العديد؛ إذْ استمرّت المعارك لمدّة اثنين وعشرين يوماً، استعمل خلالها الكيان الصهيونيّ مختلف أنواع الأسلحة البريّة والجويّة والبحريّة بما في ذلك الأسلحة المحرّمة دوليّاً، مع محاولة لاقتحام المدينة ما أدّى إلى تدمير البنى التحتيّة ومراكز القيادات الأمنيّة، وأوقعت خسائر كبيرة بين المدنيّين بلغت 1417 شهيداً و4336 جريحاً.
وقد كان الهدف من تلك العمليّة إيقاف قصف صواريخ القسّام على المدن في جنوب الأراضي المحتلّة وتهجير أهل المدينة. إلاّ أنّ تصميم أهل غزّة على الصمود حال دون تحقيق تلك الأهداف، بل خرجت المقاومة أكثر إصراراً على تحرير أرضها ودحر محتلّها، فضلاً عن تزايد التعاطف المحليّ والعربيّ والدوليّ مع فصائل المقاومة ما شكّل بيئة معادية لـ»إسرائيل» بسبب جرائم الحرب التي ارتكبتها، وبسبب استهدافها للمدنيّين. وما كاد القطاع يلملم جراحه حتى كان عدوان 2012، ليُضرَب فيه قلب الكيان الصهيوني وللمرّة الأولى ولتكون فيها المواجهة على أرض فلسطين التاريخية بأيدٍ فلسطينيّة.
لقد شكّلت غزّة للمحتل معضلة أمنية وإدارية كبرى، لدرجة أنّ رئيس وزراء الكيان الصهيونيّ الأسبق إسحاق رابين، تمنّى أن يصحو من النوم ذات صباح ليجد غزّة وقد ابتلعها البحر.
غزّة الحضارة تاريخ عريق من البناء والتعمير وحاضر أليم من العدوان والتدمير؛ فرغم ما تقوم به دولة الكيان الصهيوني كلّ بضع سنين من غارات على قطاع غزّة فإنّ أهل القطاع مستبسلون ويقدمون الدروس في الصمود والمقاومة والكرامة، ويوجّهون رسائل حقيقية إلى مدّعي الفوضى الجدد في البلاد العربية بدعوى الجهاد في سبيل الله، من ذلك تلك الرسالة مضمونة الوصول والتي مفادها أنّ الجهاد الحقيقيّ هو ما يجري في فلسطين وفي قطاع غزّة تحديداً.
إقرأ أيضا لـ "سليم مصطفى بودبوس"العدد 4329 - الإثنين 14 يوليو 2014م الموافق 16 رمضان 1435هـ
عظيم
مشكور صاحب المقال
والله ما كنت أعرف في غزة كل هذه المعالم الأثرية
نرجو ان تصلهم الرسالة
ويوجّهون رسائل حقيقية إلى مدّعي الفوضى الجدد في البلاد العربية بدعوى الجهاد في سبيل الله، من ذلك تلك الرسالة مضمونة الوصول والتي مفادها أنّ الجهاد الحقيقيّ هو ما يجري في فلسطين وفي قطاع غزّة تحديداً.
كلام في الصميم
أهل القطاع مستبسلون ويقدمون الدروس في الصمود والمقاومة والكرامة، ويوجّهون رسائل حقيقية إلى مدّعي الفوضى الجدد في البلاد العربية بدعوى الجهاد في سبيل الله، من ذلك تلك الرسالة مضمونة الوصول والتي مفادها أنّ الجهاد الحقيقيّ هو ما يجري في فلسطين وفي قطاع غزّة تحديداً.
غزّة الحضارة
نتمنّى أن نصحو من النوم ذات صباح لنجد غزّة لديها سلاحا يفتح الأرض لتبتلع الكيان الصهيونيّ بدلا من تلويث البحر
فعلا يحلم رابين
لقد شكّلت غزّة للمحتل معضلة أمنية وإدارية كبرى، لدرجة أنّ رئيس وزراء الكيان الصهيونيّ الأسبق إسحاق رابين، تمنّى أن يصحو من النوم ذات صباح ليجد غزّة وقد ابتلعها البحر