قليلون هم الذين يعرفون أن اللؤلؤ البحريني وصل إلى هامبورغ في ألمانيا. المحامي والقانوني الوحيد الذي تحصّل على تعليم في منطقة الخليج قبل بداية الثلاثينات من القرن الماضي هو المرحوم سالم عبدعلي العريض؛ ذلك الذي نشأ في عائلة اشتغلت بالأحجار الكريمة، واللؤلؤ منها خصوصاً. فبالإضافة إلى المهام التي أدّاها على أكمل وجه، كان واحداً من الخبراء في هذا المجال.
وبتصدّي أحمد سالم العريض لنشر كتاب والده، سالم عبدعلي العريض «الأحكام الإسلامية وتطبيقاتها العملية في الهند البريطانية والخليج العربي (1857-1947)، في جزءيه، يقدّم خدمة جليلة لوطنه ومثقفيه وقانونييه وخصوصاً، لما حواه من معرفة ودراية عميقة ليس في المجال الذي مارسه وبرز فيه (القانون)، بل بإحاطته وامتلاكه ثقافة كبيرة، ويتجلى ذلك في الجانب التاريخي الذي ضمّنه الجزء الأول من الكتاب.
وبحسب المقدمة، التي كتبها نجله أحمد «دام الإعداد لهذه المخطوطة سنوات طوال. إلا أن القدر شاء أن يطفئ شعلة الحياة فيه (المؤلف) قبل أن يتسنى له نشر وإحياء جني عمره».
المرحوم سالم العريض، بالاقتباس من مقدمة نجله أحمد، «سلّم مخطوطة كتابه إلى ابنه أحمد العريض قبل وفاته العام 1982، وقد أعلمه أنه أمضى ثماني سنوات من البحث والتحليل المتواصلين لإنجاز هذا العمل».
الكتاب صدر أول مرة باللغة الانجليزية ليصار إلى ترجمته إلى اللغة الأم ويصدر هذا العام (2014)، عن «الدار العربية للموسوعات» في العاصمة اللبنانية (بيروت).
بالذهاب إلى السيرة التي فُردت لها صفحتان ونصف الصفحة، ولد سالم العريض في العام 1902، لأب تاجر معروف في أوساط تجارة الأحجار الكريمة، وكان منزله محط رحال التجّار العرب. بيئة كتلك تتيح للابن الانفتاح على المعرفة في مدينة هي مراكز من مراكزها قديماً وحديثاً، وإن ظلت مومبي، كما عرفت حديثاً، مدينة فرص وتجارة. مدينة عالمية أمس واليوم.
حياة رغيدة كالتي تأتّت للعريض أتاحت له أن ينهل ويبرز. من قال إن مثل تلك الحياة تفسد وتدفع إلى التواكل في كل الأحوال والحالات؟!
في السيرة غنى، بغنى الحياة وتجاربها. في العام 1930 يعود إلى وطنه الأم؛ حيث يعمل في الجمارك، لنصل إلى العام 1932 بنقله إلى المدرسة الوحيدة للبنين في العاصمة (المنامة)، المدرسة الجعفرية، مديراً لها، وعرف بصرامته وحرصه على النظام.
عضو لجنة التفتيش عن اللآلئ
والسيرة في جانبها الاقتصادي، نقف على أن المرحوم سالم العريض، شغل منصب أمين عام خزانة صندوق الجمارك قبل الانتقال إلى مديرية التعليم، ولكونه ذا معرفة عميقة وخبرة كبيرة في تجارة اللؤلؤ، فقد رشّحه حاكم البحرين الشيخ سلمان بن حمد آل خليفة ليكون عضواً في لجنة التفتيش عن اللآلئ، في الوقت الذي كان يعمل مستشاراً وخبيراً قانونيّاً للبحرينيين والأجانب. كل ذلك لم يحُل بينه وبين المشاركة في تجارة اللؤلؤ؛ إذ عملت بإمرته مجموعة من العمّال في تنظيف المحار وتوضيبه؛ لشحنه إلى ميناء هامبورغ في ألمانيا، لتتوقف التجارة تلك في أواخر الخمسينات.
يُفرد المؤلف مساحة رحبة للجغرافيا والتاريخ والسياسة. يبدأ بالخليج العربي، حدوداً وتسميات متعددة، وتأكيداً لأنه من أقدم الطرق البحرية في العالم، وقد يكون «من البحار التي مارسَ فيها الإنسان الأول فن الملاحة».
ويعرّج إلى التاريخ المبكر في شبه الجزيرة العربية، ويظل ذلك ضمن مساحة «التخمين والاستنتاج»، ويسلط المؤلف الضوء على أهم المرافئ في المنطقة من «غرّة» (البحرين وجوارها)، الأكثر شهرة في الخليج العربي «بالتزامن مع البحرين ومرافئ مسقط وعويس وصحار»، لينتقل إلى تناول التجارة في ظل الإسلام؛ إذ «في العام 610، حرم العرب اليونانيين (الإغريق) من التجارة مع الهند، ووجهوا إليها ضربة قاصمة في البحر الأحمر، لقطع ذلك الطريق التجاري الحيوي، الذي أغلقه العرب أمامهم لفترات طويلة».
وفي «العام 637، وابان ولاية الخليفة عمر، أبحر عثمان بن أبي العاص من مسقط، وقد هدفت حملته إلى نشر الدعوة الإسلامية في معاقل الهندوس المزدهرة على الساحل الغربي من السند». ويصل بالحقبة تلك إلى استقرار «العديد من الوكلاء التجاريين وأصحاب السفن في كاتياوارا (باكستان)، وكونكان ومالابار في الهند وسيلان، وسيام (تايلند)...».
صعود الأسرة الحاكمة العمانية
وفي الكتاب يتناول العريض «طرق التجارة وموادها»، و»طرق القوافل»، و»البحار السبعة»، و»النفوذ البرتغالي في الخليج» و»التنافس البرتغالي - الانجليزي على النفوذ في الخليج العربي»، «صعود الأسرة الحاكمة العمانية وتلاشي النفوذ البرتغالي في الخليج العربي».
الجزء الأول الذي يتكون من ثلاثة فصول، يتناول في الثالث منه تاريخ المؤسسة القانونية، ولم يبرح ذلك الجانب التاريخي منه، منذ عهد الرسول الأكرم (ص)، والخلفاء من بعده، ليصل بنا إلى «المقصود بالقانون»، منطلقاً من تعريف أوستن له، بأنه عبارة عن سلطة أو قيادة «تلزم شخصاً أو عدداً من الأشخاص بانتهاج مسار سلوكي معين، إنه الأمر الصادر عن مسئول سياسي أعلى إلى مسئول سياسي أدنى بهدف وحيد ألا وهو تنظيم سلوك الفرد الذي يشكّل الوحدة في المجتمع...».
وبعد أن يفرد مساحة لتقديم تعريفات للشريعة الإسلامية/ أو / الفقه الإسلامي، من حيث التطور والنشأة، يتناول ماهية المفهوم الإسلامي للقانون، معدّداً بعد ذلك الباب مصادر الفقه الإسلامي.
في الفصل الذي يتناول تطبيق الأحكام الإسلامية في الهند، يعرض واقع الحال وقتها، لكنه لم يتغير كثيراً بطبيعة نظر المذاهب الإسلامية إلى بعضها بعضاً، ولذلك امتداد وأسباب ترجع إلى يوم الفتنة الأولى، وبعد رحيل نبي الأمة. وبطبيعة الحال تلك التغيرات أدت إلى نشأة مذاهب وبروز أئمة لها، يستعرضها المرحوم العريض، ابتداء من المذهب الشيعي ومجموعة الاعتقادات التي تشكل أساسه على مستوى العبادات والمعاملات واستقاء الأحكام ومصاديقها، والأمر كذلك في المذهب السني، وما برزت فيه من مذاهب أربعة هي السائدة والمسيِّرة لاعتقاد المسلم عبادة ومعاملات.
اختلافات مذهبية فقهية
«وفقاً للمذهب الشيعي يعتبر أي شخص المالك المطلق لثلث ملكيته، الذي يسمى بالثلث القابل للتوريث بموجب وصية، وتوريثه لوريث يعد صحيحاً، أما المذهب السني فيفرض موافقة الورثة الآخرين قبل المصادقة رسميّاً على إعلان شرعية مثل هكذا وصية، بينما في القانون الشيعي تكون الموافقة المذكورة ضرورية فقط في حال تجاوز الميراث الموصى به ثلث الموجودات، ويمكن أن تمنح حتى في حياة تارك الوصية، تماماً على عكس الحكم السني في هذا الشأن. وفي حال وفاة الموصى له في حياة تارك الوصية، ينتقل الميراث إلى ورثته ما لم يتم إبطاله من قبل الموصي، لكن هذا الحق يسقط وفقاً للمذهب السني».
وبعد تناول الاختلافات في الأحكام بين المذاهب وصولاً إلى موضوع الإرث الذي يحدث فيه الكثير من التباين في التفصيلات، تحتل الصفحات الأخيرة من الجزء الأول من الكتاب تفصيلات تتعلق بالأحكام الإسلامية والسياسة البريطانية، وما يتفرع عن تلك الأحكام، والحالات التي تكون فيها أحكام الفقه الإسلامي هي أحكام القانون الانجليزي نفسها، والحالات التي تُعدّل فيها أحكام الفقه الإسلامي بواسطة القانون الإنجليزي، والحالات التي يتم فيها تعديل تلك الأحكام بواسطة العُرف.
قانون العقوبات الإسلامي
في الجزء الثاني من مؤلف المرحوم سالم العريض، وتحديداً في الفصل الرابع، يبدأ بأحكام الفقه الإسلامي: التعريف والعقاب، مبتدئاً بالتصنيف (تصنيف أحكام الفقه الإسلامي) تلك المتصلة مباشرة بتعريف الجرائم والمعاقبة عليها تحت ثلاثة عناوين أو مبادئ عامة من القضاء الجزائي، هي:
القِصاص، أو الثأر بملحقة الديّة أو غرامة الدم.
الحدود المنصوص عليها أو العقوبات الثابتة.
التعزير والسياسة، أي التأديب والعقاب التقديريين. ويدخل في تفصيلات كل واحد من أولئك.
يورد في الكتاب الأحكام التي ترد في الشق المتعلق بالقضاء الجزائي، مستعيناً في ذلك بكتاب «الهداية» و»فتاوى العالم - كيرية»، ومن ذلك «إذا شهر شخص ما سيفاً بوجه آخر وضربه به وانسحب بعد ذلك، وأقدم الشخص الذي تعرض للضرب - أو غيره - لاحقاً وعمداً على قتله، فإن هذا الجاني يخضع للقصاص، وهذا يحصل حيثما يكون المعتدي قد انسحب بطريقة تشير إلى أنه لن يهاجم مجدداً، وكفّ بالتالي عبر انسحابه عن كونه مهاجماً؛ الأمر الذي يفرض صون دمه وتطبيق القصاص بحق من يقتله».
وفي تعليقات وتفسيرات لكتاب «الهداية»، يقتبس العريض من كتاب «النهاية»، إجابة أبي جعفر، حاكم هندوان، إحدى دوائر مدينة بلخ، في رده على سؤال طرح عليه عما إذا كان يحق لشخص ضبط رجلاً متلبّساً بفعل الزنى مع زوجته، أن يقتله؛ وقد جاءت الإجابة - الواردة في الطبعة الفارسية - على النحو الآتي: «لو عرف أن الرجل سيكف عن فعل لزنى فور مناداته والصراخ بوجهه، أو ضربه بأي شيء لا يشكل سلاحاً مميتاً، يجب عندئذ ألاّ يقتل هذا الرجل. لكنه إذا ما اعتقد بأن الموت وحده هو الذي سيكبح الرجل عن ارتكاب فعل الزنى، يكون من المشروع قتله وقتل المرأة معاً، في حال موافقتها على فعل الزنى».
يحتل الفصل الرابع الذي يتناول القِصاص، والحدود، والتعزير، مساحة كبيرة من الكتاب، إذ يتناول التفصيل في كل منها مع ذكر حالات وشواهد لكل واحد من أولئك، توزّعاً بين القصاص، والحد والحدود، ولذلك تفريعاته أيضاً، منها حد الشرب أو الإدمان على الخمر، وحد القذف، وحد السرقة.
وفي الفصل نفسه، يعرض المؤلف لأحكام الجرائم والعقوبات، وتعديل أحكام الفقه الإسلامي والتدابير المتخذة قبل العام 1793، وإدارة شئون القضاء الجزائي وتعديل الأحكام الإسلامية، المرسوم رقم 9 للعام 1793، قواعد محاكمة المجرمين، وجاء فيه: «لدى محاكمة أي سجين يمثل أمام (محكمة الدائرة)، ينبغي حضور المستشارين المتخصصين في الشريعة الإسلامية، إذ يجب عليهم في ختام المحاكمة أن يكتبوا في نهاية سجلّ محاضر الجلسات، (فتوى) أو إعلاناً حول الحكم الفقهي الواجب التطبيق على القضية. ويتعين على المحكمة أن تدرس هذا الإعلان، وإذا ما تبين لها أنه متوافق مع العدالة الطبيعية ومطابق للأحكام الإسلامية، تقرّ عندئذ الحكم بلغة (الفتوى)، وتصدر المذكرات اللازمة من أجل تنفيذه العاجل، شريطة ألاّ يحكم على السجين بالإعدام أو بالسجن المؤبد؛ لأنه في كلتا هاتين الحالتين، يصبح من الضروري إحالة مجمل إجراءات المحاكمة مرفقة بترجمات إنجليزية إلى محكمة (نظامت عدالت) لتقرير الحكم النهائي».
ويتطرق إلى مرسوم سلطة العفو أو منح تخفيف العقوبة، من خلال المرسوم رقم 6 للعام 1796، وتعديل أحكام القصاص الإسلامية، من خلال المرسوم رقم 4 للعام 1797، والمرسوم رقم 14 للعام 1797، وتعديل الحنث باليمين وشهادة الزور، وتعديل أحكام القصاص الإسلامية، وتعديل الأحكام الإسلامية المتعلقة بقصاص القتل والأذى الجسدي، وتعديل الأحكام الإسلامية المتعلقة بالعقوبات التقديرية، وينهى الباب بالمرسوم رقم 12 للعام 1829، الخاص بعقوبة الجرح بنيّة القتل، إذ يشير في تفصيله إلى أنه «تبين أن عقوبة السجن لمدة سبع سنوات غير وافية تماماً، وأن العون المقصود تقديمه إلى محكمة (نظامت عدالت) لم يتحقق على المدى المنشود، وبناء عليه، نص المرسوم الراهن على أن القاضي، وفي جميع قضايا الجرح التي تثبت فيها نية القتل العمد، وفي حال توافق رأي مفوّضي محكمة الدائرة مع فتوى المستشار الشرعي، يستطيع إقرار عقوبة بالسجن لا تتجاوز أربع عشرة سنة».
القضاء في عهد المغول
في الفصل الخامس، يتناول العريض القضاء في عهد المغول حتى نهاية القرن التاسع عشر؛ إذ في عهد الإمبراطور أورانكزيب، وعندما كانت المراسيم الملكية تعود إلى الناظم، كان مشروع الـ (نظامت) في وزارة العدل يشمل العدالة والحماية والدفاع عن البلاد. وكانت أوامر صاحب الجلالة تقضي بأن يتولى الناظم - المعين في الوقت الراهن - إحلال العدل/ وإدارة القضاء بالاشتراك مع القاضي والمفتي والعلماء (المجتهدين)، وبحضور استخبارات الإمبراطور والجاسوس الملكي.
ويتوقف العريض عند إنهاء نظام الأحكام الجزائية الإسلامية كقانون عام، في العام 1832، من خلال المرسوم رقم 6 للعام 1832، وأفاد القانون بأنه من المستصوب والمستحسن تمكين الموظفين الأوروبيين الذين يترأسون في المحاكم المدنية والجنائية الاستعانة بمساعدة أشخاص محليين جديرين بالاحترام في حسم الدعاوى والمحاكمات.
لن يحيط الاستعراض بما تضمنه الكتاب في جزءيه، بثرائه وغزارة معلوماته، استعراضه لأمهات الكتب التي قرأها، باللغتين العربية والانجليزية، مع التذكير بأن الكتاب صدر بداية باللغة الإنجليزية.
العدد 4329 - الإثنين 14 يوليو 2014م الموافق 16 رمضان 1435هـ