وأنت تجول ببصرك على خارطة البحرين، فليصحبك اليقين أن موعداً مهمّاً ينتظرك على الجانب الشرقي منها. أعني هناك إذ تتدلى جزيرة مزدانة بشمائل أهلها الطيبين. وسواءً سميَّت بما سميت به، لأن ساتراً من النخيل كان يحجبها عما دونها من القرى كما تقول آراء بعض الباحثين، أو تخفيفاً للفظ «ست قرى» كما يذهب آخرون؛ فإن جزيرة سترة تبقى ماثلة في خارطة ووجدان البحرين، كواحدة من المناطق التي تحفظ للبحرين إرث أصالتها تاريخاً وجغرافيّاً، خصالاً وطبائع.

عندما عزمت على كتابة هذا التقرير كان شعوراً محيراً يراودني عن كيفية البدء فيه، لا من جهة شح المعلومات وغياب المصادر أو الجهل بطبيعتها؛ فالحال أنَّ دار سكناي لا تبتعد عنها سوى بمقدار بعد الأنف عن الحاجبين، لكن لتشعُّب المواضيع التي يمكن لأي كاتب أن يخوضها عند الحديث عن سترة، فإنه أينما تولي فإن حكايا وقصص بانتظارك «تاريخيّاً، خدماتيّاً، سياسيّاً، أو حول إنسان هذه الأرض»، وحتى هذا الأخير يفتح أمامك أبواباً فرعية ليست بقليلة، فالتعليم والعمل والفقر، والمعاناة، والأخلاق والسجايا، كلها قضايا تحتاج إلى تقارير أو تحقيقات مستقلة. غير أن نقطة من كل بحر كانت بالنسبة إلي طريقاً مناسباً لنسج خيوط هذا التقرير ... وهو ما قررت أن أبدأ به العمل.

في الطريق إلى سترة

كانت عقارب الساعة تشير إلى الـ 9 صباحاً. هذا كان موعد الاتفاق مع أخي الأكبر الذي دعوته إلى مرافقتي في هذه المهمة.

أدرنا محرك السيارة متجهين إلى سترة، الجزيرة التي تقع ضمن 12 منطقة في المحافظة الوسطى هي: ( توبلي، الكورة، سلماباد، عالي، مدينة عيسى، سند، جرداب، المعامير، النويدرات، العكر، الرفاع الشرقي والغربي، بوكوارة)، يقطن فيها نحو 40.000 نسمة (من المواطنين)، على مساحة تبلغ 6.06 أميال، أي ما قدره 15.69 كيلو متراً مربعاً – بحسب إحصاءات جهاز المساحة للعام 2012-.

عموماً، ما أن انعطفنا مع الإشارة التي توصل إلى مدخل سترة، حتى لاح أمامنا شيئان صارا جزءاً من طبيعة سترة ما بعد (مارس/ آذار 2011): الأول نقطة أمنية، والثاني حواجز أسمنتية يستخدمها رجال الأمن لإغلاق بعض المنافذ أو لضبط تدفق المركبات.

سترة بين سدين

عبرنا النقطة وكانت حينها غير مفعَّلة، بيد أن مناظر السواتر والحواجز والسدود في المدخل وفي أوساط قرى سترة ومنافذها كان شيئاً يشد أنظار الجميع. وفيما تتولى أجهزة الأمن وضع الحواجز والسواتر الترابية في بعض المناطق من سترة لغايات أمنية وحمائية تضمن من خلالها السيطرة على الأوضاع في المنطقة، فإن هنالك سواتر وحواجز من الأسمنت والخشب تعود إلى الأهالي أيضاً. يقولون: «إن المحتجين يستخدمونها عادة لحماية أنفسهم، ولإعاقة تقدم قوات الأمن في مناطق الاحتجاج، وكذلك لتأمين هروب آمن إذا دعت الحاجة».

سوق سترة المركزي... مشهد البحريني الأصيل

«على دينار على دينار»، «حياكم ... لا يفوتكم الكيلو بدينارين»، «ويش حجي آخر جم... والله يا بويي ما يجي بأقل من جدي». نحن هنا في سوق سترة المركزي، وتلك الجلبة هي لأصوات باعة السمك وزبائنهم. في سترة يشكل بيع السمك مصدراً رئيسيّاً لعيش عدد كبير من الأسر ويشمل ذلك الكهول والشباب.

بدا لنا سوق سترة المركزي مشهداً مصغراً لوداعة الشعب البحريني وبساطته، ويتجلى ذلك بوضوح في طريقة معاملة الباعة، وبشاشة الزبائن.

خطواتنا الآن تتجه نحو سوق الخضراوات في سترة، يقع السوق في ظهر سوق السمك مباشرة. كان هدفنا أن نتحدث مع الباعة الآسيويين لنتعرف على انطباعاتهم عن المنطقة وأهلها.

ماذا قال محمد حارس بائع الدجاج؟

بمجرد أن تحط قدماك في سوق سترة للخضراوات، ستتلقاك في الجهة اليمنى فرشة محمد حارس (هندي – 53 عاماً). عندما اقتربت منه وفي يدي دفتر، ولدى أخي الكاميرا، كان يبدو عليه التوجس من وجودنا هنا. أخبرته أن عليه ألا يقلق، فنحن هنا من أجل أن نتحدث معه قليلاً جدّاً ونمضي. ثم عرفته بطبيعة المهمة التي جئت من أجلها قبل أن أتقدم إليه بالسؤال: «منذ متى وأنت تعمل هنا، وكيف ترى الناس في هذه المنطقة؟». فأجاب «أعمل هنا منذ 15 عاماً. والناس هنا طيبون كلهم كإخواني».

خشيت أنه قد يتعمد إخفاء الحقيقة عليَّ نظراً إلى التوجس من استغلاله فيما لا يحب. لذلك توجهنا إلى فرشات متعددة فكانت الإجابات كلها على رتم واحد، تبدي ارتياحها من المنطقة وسكانها. لكنها متذمرة من حجم الكساد التجاري الذي يعتريها.

عندما تخرج من ممر سوق الخضراوات الذي يصلك مباشرة بسوق السمك، تجد على شمالك دكاناً لبيع الدجاج. قلت لأخي فالندخل هنا. المكان مغلق وربما تنداح قريحة البائع بما أمسكت عنه البقية في الخارج. اسمه مصطفى وقال: إنه «موجود هنا منذ 14عاماً». سألته «كيف ترى الناس هنا؟، هل ثمة مشاكل تواجهها؟». أجاب « المشكلة الوحيدة، هي الكساد، الزبائن أصبحوا قليلي المرور هنا. سابقاً كنا أفضل». قاطعته «أعني هل هناك مشاكل في التعامل معك؟ هل هم عدائيون؟». أجاب «أخبرتك أنني هنا منذ 14 عاماً. لو كانت هنالك كل ما تقول هل كنت سأنتظر كل هذا الوقت؟... الناس هنا طيبون ولا توجد عدائية في معاملتهم».

... على وقع المصادمات الأمنية

بينما كنت أتحدث مع البائع محمد حارس، اندلعت مواجهات أمنية بين مجموعة من الطلبة وقوات الأمن بالقرب من مركز شرطة سترة، استخدم الطلاب خلالها الحجارة، وكانت قوات الأمن ترد عليهم أحياناً باستخدام مسيلات الدموع.

حقيقة كانت فرصة مهمة للتعرف على أجواء السوق ورأي الأجانب في مثل هذه الظروف، فبدأت بتسجيل الملاحظات.

لاحظنا أن شيئاً كأنه لم يحدث لدى الباعة في السوق لا من حيث الخوف ولا التوتر ولا ترقب أي شيء. في الأثناء سألت حارس: «قلت إن الناس طيبون. لكن في مثل هذه الظروف هل هنالك ما يتغير؟». أجاب « أبداً ... تبقى المسألة محصورة بين الشرطة والمحتجين. ولم يحدث أن تعرض لي أحد لا هنا ولا في مكان سكني».

عمير المعلم

على بعد أمتار قليلة من سوق سترة المركزي، يقع مرقد الشيخ عمير المعلم، وتحديداً في (واديان). ويعتبر الشيخ المعلم أحد أشهر المقامات الدينية في سترة، وصار حاليّاً ضمن نطاق مدرسة سترة الإعدادية للبنات وللوصول إليه، لابد أن تسلك من مواقف المدرسة.

يقصد الستراويون وعموم البحرينيين مقام الشيخ عمير لأداء الصلاة وطلب التبرك اعتقاداً بصلاح الرجل وتقواه. وتاريخيّاً وبحسب كتاب المزارات في البحرين لمحمد باقر الناصري فإن الاسم الكامل للشيخ عمير هو «عمير بن عامر الهمداني المعروف بالمعلم»، وهو من أشياع الإمام علي بن أبي طالب (ع)، من سكنة الكوفة. وقد تعرض للحبس على يدي عبيد الله ابن زياد قبل أن يثور مع المختار الثقفي ضد بني أمية طلباً للثأر من قتلة الإمام الحسين بن علي (ع)، إلا أنه وبعد هزيمة المختار فر من الكوفة متنقلاً حتى وصل إلى البحرين. غير أن صاحب الكتاب نفسه لا يؤكد القصة تماماً ويبقيها في خانة الاحتمال، فيما يشير صاحب سنوات الجريش الباحث التاريخي جاسم آل عباس في مدونته إلى القصة نفسها للشيخ عمير، وأنه هرب من حكم بني أمية من الكوفة إلى البحرين وأن أول تشييد للمقام كان في العام 1946 من دون أن يورد تفاصيل مؤكدة ما إذا كان المعلم شارك في ثورة المختار الثقفي أم لا. لكن أيّاً تكن حقيقة صاحب هذا القبر؛ فإن الأهالي منذ القدم يؤكدون شهودهم بركات وكرامات الشيخ عمير المعلم.

الشكوى من التمييز... مستشفى الولادة مثالاً

عندما تجول في سترة وتتبادل الأحاديث مع أهلها لم يكن من الصعب أن تكتشف حجم التذمر مما يعتبرونه «تمييزاّ» ضدهم على المستوى الخدماتي؛ فسترة خامس أكبر جزيرة في البحرين تفتقر إلى كثير من الخدمات التي تتناسب مع حجمها - كما يعبرون-.

ودائماً ما يبقى المركز الصحي وإغلاق مستشفى الولادة مثالاً للتمييز الذي يعتقد الستراويون بوجوده ضدهم. وهذا الشعور موجود حتى على مستوى النخبة؛ فالممثل البلدي لجزيرة سترة «المقال» صادق ربيع سبق أن اشتكى من التمييز ضد سترة عندما طرحت مسألة نقص الطبيبات في المركز مثلاً.

مستشفى سترة للولادة الذي أغلقته وزارة الصحة منذ ما يقرب الـ 10 سنوات - كما يقول الأهالي ـ قبل أن تعيد فتحه من جديد ثم تغلقه مجدداً بعد فترة بسيطة من إعادة فتحه، يعتبره أهالي سترة نموذجاً صارخاً للتمييز ضد المنطقة، وخصوصاً أنه سبق للأهالي وللنائب السابق سيد حيدر الستري أن طالب بإعادة بناء المستشفى من دون تجاوب من وزارة الصحة. مع العلم بأن المستشفى عندما كان مفتوحاً، كان يضم 10 أسرة فقط، 2 منها فقط مخصصان للتوليد، والثمانية الباقون لكبار السن وحالات الرعاية فقط - بحسب تصريح سابق للوزارة في العام 2010 -.

ذاكرة الوجع

وفي سترة، لابد من تصفح ذاكرة الحزن. حيث يختزن أهالي سترة ذكريات موجعة كثيرة، تضاعفت خلال الأزمة التي عصفت بالبحرين ولاتزال منذ (فبراير/ شباط 2011)، حيث أودت الأحداث الأمنية التي تشهدها البلاد منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا الحاضر بنحو 30 ستراويّاً وستراوية – بحسب جردة حساب أهالي سترة -، بينما سجل تقرير بسيوني رسميّاً 4 حالات منها توفوا نتيجة إصابتهم بطلقات رشية «شوزن»: هم (علي خضير (1958) – محمود أبو تاكي (1987) - علي المؤمن (1988) – أحمد فرحان (1980) – وهذا الأخير ذكر تقرير بسيوني إصابته بـ (5 إصابات من الأسلحة النارية) بتاريخ (15 مارس 2011).

والحق أن ذاكرة الستراويين لا تتوقف عند ذكرى هؤلاء، بل تتعداهم إلى ما يطلقون عليه «شهداء التسعينات»، ويقصدون بذلك الضحايا الذين سقطوا ابان الأحداث التي شهدتها البحرين في تسعينات القرن الماضي، والتي انتهت مع مجيء عاهل البلاد حضرة صاحب الجلالة الملك حمد بن عيسى آل خليفة وطرح المشروع الإصلاحي، عبر بوابة ميثاق العمل الوطني.

سترة... نقطة الانطلاق

مع بداية الألفية الجديدة، وتزامناً مع التحول السياسي في البحرين بعد تولي جلالة الملك مقاليد الحكم، شهدت البحرين يوماً ملحميّاً تاريخيّاً سطره أهل سترة خاصة، والبحرينيون عموماً وذلك عندما زار العاهل جزيرة سترة تزامناً مع أفراح البحرين بالانفراج السياسي وميثاق العمل الوطني. كانت مشاهد المواطنين رجالاً ونساء المصطفين على قارعة الطريق لتحية العاهل عيداً وطنيّاً بحق، وصفه البحرينيون بـ «بوابة العبور» نحو الحياة السياسية الجديدة، ولاسيما بعد أن كانت سترة من أكثر القرى تأثراً بالأزمة.

وتبقى سترة...

لا يزال البحرينيون وبعد أكثر من عقد على تلك الزيارة التاريخية، يرون في سترة «نقطة الانطلاق» نحو أي وضع مستقر جديد قد تفرزه الأزمة الحالية، وذلك لشدة تأثرها بالوضع القائم، ولقائمة الضحايا التي منيت بها. وفي ثقل الاعتبار الذي تضعه السلطة والمعارضة لسترة تأكيد لذلك.

يقول الشيخ حسن عيسى البرلماني الوفاقي الذي استقال من المجلس مع زملائه في ذروة أحداث (فبراير/ شباط 2011): «إن تاريخ الحراك الستراوي باتجاه المطالبة بالدولة العادلة التي تخدم الإنسان وقيمه قديم ومازال مستمراً. حيث كان هذا الحراك موجوداً منذ أيام الحقبة البريطانية وما قبلها من نظام الحكم الإقطاعي. فسترة طالبت في تلك الفترة بالإدارة المركزية وإلغاء النظام الإقطاعي، وقدمت في سبيل ذلك الكثير من التضحيات».

ويضيف عيسى «عشتُ في سترة بين حقبتين، وأستطيع القول إنني شهدت سترة القديمة وسترة الحديثة وفي العهدين عاصرت الحراك السياسي في هذه الجزيرة، ووجدت طاقات ستراوية جبارة لا تعرف التعب. وعقيدتي أن سترة كانت ومازالت وستبقى جزءاً مهماً من أي حراك كان أو سيكون في المستقبل، وذلك بطبيعة تاريخها السياسي وطبيعة تفكير ونفوس أبنائها».

ويؤكد النائب المستقيل «وفي واقع حراكنا اليوم أنت ترى أن الجماهير الستراوية هي الأكثر بروزاً ووضوحاً وتأثيراً في الساحة. وهنا أنا لا أبخس حق البقية، ولكن أود أن أثبت حقيقة في هذا الاتجاه أنه لا يمكن لأي جهة سياسية أن تقود زمام المبادرة للحل دون موافقة الجماهير عموماً، والجماهير الستراوية خصوصاً».