العدد 4325 - الخميس 10 يوليو 2014م الموافق 12 رمضان 1435هـ

لنجعله شهراً فضيلاً لا شهراً للفضلات

عبد الأمير الليث comments [at] alwasatnews.com

-

قبل أيام (وفي 2 يوليو/ تموز 2014) أطلقت وكالة الفضاء الأميركية (ناسا) بنجاح قمراً صناعياً يرصد تركيز نسبة غاز ثاني أكسيد الكربون في جو الأرض. وكانت (ناسا) قد أطلقت قمراً مماثلًا قبل 5 سنوات، لكن لم يكتب له النجاح. فلماذا تصر (ناسا) على المضي قدماً في مشروع مكلف؟ وما علاقة هذا القمر بشهر رمضان؟ فعلياً ليس هناك من علاقة مباشرة، لكن الموضوعين متصلان بسبب ما نحاول سبره في هذا المقال.

لقدوم شهر رمضان على المسلمين وقع لا يضاهيه أي من الشهور الهجرية العربية الأخرى. فتداعيات قدومه تلامس الجميع، تبدأ من أرفف ومنصات العرض في البرادات والأسواق (السوبر ماركت)، التي تتغير محتوياتها قبل أسابيع من قدوم رمضان، ولا تنتهي براعي (صانع) السمبوسة الذي يعمل بطاقته القصوى لتلبية الطلبات المتزايدة على السمبوسة.

وعلينا أن نعترف أن رمضان لم يعد شهراً للعبادة فقط، ونحن لا نستقبله فقط لأنه شهر العبادة والتقرب إلى الله، وأنه خير من ألف شهر تنزل فيه الملائكة، وأنه شهر القرآن، ولكننا أصبحنا نستقبله أيضا لنمارس فيه بعضاً من خصوصيتنا وثقافتنا التي استطعنا أن نلبسها شهر رمضان بالرغم من ضعف صلتها بجوهر شهر رمضان وروحه ومنطلقاته. لقد حاولنا، بشيءٍ من النجاح، أن نزواج بين ركائز رمضان العبادية ورغائبنا وأهوائنا الثقافية في مسلكيات صبغناها صباغةً بتلاوين عبادية وألقينا عليها ظلالا دينية لنريح بها أنفسنا من عبء الإجابة على الأسئلة الفاضحة لحقيقة الممارسات والسلوكيات اللارمضانية التي نقوم بها في رمضان.

ولعل من أوضح الأمثلة على الإتيان بنقيض ما جاء من أجله شهر رمضان من ترويض للنفس وأهوائها، هو ما تعكسه سلوكياتنا الغذائية من حالة إفراط غير مبرر ناشئ، جزئياً، إما عن فهم خاطئ لبعض السلوكيات التعبدية، أو نتيجة التذرع بقيم اجتماعية متوهمة لا تجد لها سنداً عقلانياً أو أخلاقياً، حالة أشبه بلوثة غذائية، تشارك في تعميمها وتضخيمها شركات تصنيع الأغذية والوسائط الاعلامية المختلفة عن طريق محاصرة عقل الصائم ودغدغة رغائبه الحسية.

كانت مجتمعاتنا الخليجية ماقبل النفطية أقرب إلى الاكتفاء الذاتي فيما يتعلق بإطعام النفس وتوفير المستلزمات الغذائية طوال العام بما في ذلك خلال شهر رمضان. وكانت البدائل المتاحة محدودة جداً. ثم أصبحنا مجتمعات نفطية، كما وأصبحت بعض تلك المجتمعات ممن يمكن وصفهم بـ «محدثي النعمة». وحدثت تطورات اجتماعية واقتصادية هامة، انعكست بدورها على السلوكيات الفردية والمجتمعية. بعض تلك التطورات مهمة وحضارية وإيجابية، لكن بعضها الآخر كان كارثيا. على المختصين أن يوفروا أجوبة على الأسباب التي أدت بسلوكيات مجتمع يعيش على حدود الكفاف ويأكل الجريش ولا يعرف طعم لحم الدجاج إلا لماماً، وكان مع ذلك كان في حالة شبه اكتفاء ذاتي، إلى الانتقال إلى ما يشبه حالة الفلتان بسبب الهدر المفرط لفضيل (زائد) الأغذية والأطعمة وتراكم فضلاتها خلال شهر رمضان.

فاليوم ينتج الفرد الخليجي من الفضلات والمخلفات المنزلية الصلبة ما جعله من أكبر منتجيها عالمياً. فباسثناء بعض الدول المتقدمة (وتلك قصة أخرى)، يأتي الفرد الخليجي في أعلى قائمة منتجي المخلفات المنزلية التي تقوم البلديات بجمعها والتخلص منها. ويقدر ما ينتجه الفرد في البحرين من مخلفات صلبة في اليوم الواحد ما بين 1.7 إلى 1.8 كيلوجراما، أي حوالي 0.64 طناً مترياً سنوياً. وتتقارب هذه النسبة مع نسب بقية دول الخليج العربية، علما بأن الفرد الإماراتي ينتج ما بين 1.8 إلى 2.3 كجم يوميا. ولمزيد من التوضيح، ينتج الفرد المصري من المخلفات الصلبة المنزلية حوالي (1.1) والإيراني (0.88) والمغربي (0.60)، والهندي (0.4 -0.67) كجم يوميا.

وإنني أزعم بأن قيم النسب آنفة الذكر، على ارتفاعها، لا تعكس حقيقة ما يجري في شهر رمضان، لأنها متوسط حسابي تختفي بداخله القيم المتطرفة. فكمية الفضلات الغذائية المنتجة في رمضان لن يجادل اثنان في زيادتها عن باقي أشهر السنة. ففي هذا الشهر الفضيل تصاب الموائد بتخمة في أنواع الأكل وكمية الطعام. ويصاحب هذه التخمة (أو بالأحرى ينتج عنها) تخمتان هما تخمة البطون وتخمة أكياس القمامة، وبدلا من أن يصبح شهر رمضان فرصة لإراحة الجهاز الهضمي من كثرة الأكل تزداد الاضطرابات الهضمية والإرباكات الأيضية ولا تنقص الأوزان من الأبدان. أما تخمة أكياس القمامة بالفضلات الغذائية فهي موضوع حديثنا لأهميته الكبيرة. فللفضلات الغذائية جوانب مختلفة منها ما هو اقتصادي ومنها ما هو اجتماعي إنساني ومنها ما هو بيئي.

تتفاوت المخلفات المنزلية الصلبة تفاوتا كبيرا في كميتها ومكوناتها من بيت إلى بيت، ومن مجتمع إلى مجتمع. فعلى المستوى الوطني تبلغ كمية المخلفات الصلبة المنزلية ما يزيد على 4500 طنا يوميا أي ما يزيد على على 1.5 مليون طنا سنويا (وهي إحصاءات سابقة على الطفرة السكانية الأخيرة). وتحتوي المخلفات المنزلية الصلبة على مواد عضوية وأنقاض بناء أو مواد مستخدمة في الإنشاءات وزجاج وورق وبلاستيك ومعادن وغيرها. ويقصد بالمواد العضوية مخلفات الطعام أو فوائضه والمخلفات الزراعية ومخلفات الحدائق والأخشاب. وفي مجتمعاتنا المحسوبة ظلما (فيما يخص البحرين) على المجتمعات ذات الدخل المرتفع تبلغ نسبة المخلفات العضوية حوالي 60 في المئة، وتشكل نسبة فضلات ومخلفات وفوائض الأغذية حوالي 60 في المئة من المخلفات العضوية. أي أن نسبة فضلات الأغذية قد تبلغ الثلث. بينما يشكل الورق حوالي 13 في المئة والمواد البلاستيكية 7 في المئة والزجاج 4 في المئة. ومن أراد أن يتحقق عليه زيارة مكب عسكر للنفايات أو سؤال شركات جمع القمامة أو المجلس الأعلى للبيئة، علما بأن هذه الأرقام المتداولة لا يتم تحديثها بشكل دوري.

تلحق الفضلات العضوية والغذائية أضرارا مباشرة وغير مباشرة بالبيئة. فعندما يلقى بالمخلفات العضوية والغذائية في مكبات النفايات، وهي الطريقة المستخدمة في البحرين ومعظم دول المنطقة، فإن هذه المخلفات تساهم في زيادة انبعاثات بعض الغازات التي تؤدي إلى تغيّر المناخ وارتفاع درجة الحرارة تعرف بالغازات المسببة للاحتباس الحراري أو غازات البيوت البلاستيكية (Greenhouse gases, GHGs). وهي غازات ثاني أكسيد الكربون والميثان وأكسيد النيتروز. وتعتبر مكبات القمامة من أكبر مصادر هذه الانبعاثات نتيجة التحلل الحيوي الذي يحدث في غياب الهواء. ومن الناحية البيئية يعتبر غاز ثاني أكسيد الكربون أهم هذه الغازات لأنه ينتج بكميات كبيرة من نشاطات بشرية عديدة مضرة بالبيئة كحرق الوقود الأحفوري ومشتقاته أثناء النقل وفي محطات توليد الكهرباء. وعلى المستوى العالمي ينبعث سنويا ما يقارب من 40 مليارا طنا متريا، نصف هذه الكمية من الغاز يتم حبسها في طبقات الجو فتعمل كلحاف أو غطاء حول الأرض يحبس الطاقة الحرارية مما يؤدي إلى ارتفاع درجة الحرارة.

بالرغم من أن حرق الوقود الأحفوري هو السبب الرئيسي في زيادة نسبة ثاني أكسيد الكربون وبالتالي ارتفاع الحرارة، إلا أن وصول فضلات الأغذية إلى مكبات النفايات يعتبر من أهم مصادر انبعاث غاز الميثان. وتختلف الغازات المسببة في الاحتباس الحراري في قدرتها على حبس الطاقة (وبالتالي ارتفاع الحرارة). وتقاس هذه القدرة بما يعرف بجهد الاحترار العالمي (Global Warming Potential) وهو عبارة عن مجموع الطاقة الكلية التي يستطيع غاز ما امتصاصها خلال فترة زمنية محددة (عادة 100 سنة). وكلما زاد هذا الجهد كلما كان الغاز أكثر تسببا في ارتفاع درجة الحرارة. وقد استخدم غاز ثاني أكسيد الكربون كأساس وأعطي معامل جهد مساويا للوحدة (= 1). ويقدر جهد غاز الميثان بـ 20- 25، أما الغاز الثالث وهو أكسيد النيتروز فجهده يساوي 300 مرة جهد ثاني أكسيد الكربون. بعبارة أخرى ، يمكننا القول أن كل كيلوجرام من غاز الميثان يمتص ما يزيد عن عشرين مرة ما يمتصه نفس الوزن من غاز ثاني أكسيد الكربون. مما يعني أن الأضرار التي يسببها غاز الميثان تزيد عشرين مرة مقارنة بغاز ثاني أكسيد الكربون على أساس نفس الوزن.

تتصف أنماطنا وسلوكياتنا الغذائية ببعدها الكبير عن الاستدامة. فاستدامة الأنماط الغذائية تتطلب توافر غذاء متوازن وصحي للفرد ويحافظ في نفس الوقت على البيئة. ومن المعروف أن للغذاء دورة حياة وسلسلة تبدأ من الحقل وتنتهي في مكب النفايات (أو بالحرق أو بتحويله إلى مخصبات). خلال هذه الرحلة وفي مراحل مختلفة يهدر الكثير من الغذاء. في بريطانيا، يتم هدر حوالي 22 في المئة من الأغذية قبل أكلها. وفي مصر قد تصل النسبة إلى 30 في المئة. وفي البحرين تصل نسبة فضلات الأغذية إلى ما يقرب 33 في المئة، كما سبق وأشرنا إليه. من بين المواد العضوية التي تصل إلى مكبات القمامة تساهم المخلفات الغذائية بحوالي 98 في المئة من الانبعاثات المسببة للاحتباس الحراري. هذه الفضلات مسئولة عن ما بين 19 في المئة إلى 31 في المئة من مجموع انبعاثات الغازات المسببة للاحتباس الحراري. ناهيك عن مخلفات المطاعم والفنادق التي تساهم بحوالي 10 في المئة من الانبعاثات. وتشير بعض التقديرات إلى أن النسب المئوية للانبعاثات خلال رحلة الغذاء (بفضلاته) يمكن تجزئتها إلى 16 في المئة قبل وصول الغذاء إلى المستهلك، 8 في المئة أثناء وجود الغذاء في المنزل، و76 في المئة خلال وجوده في مكبات النفاية.

وتشير بعض الاحصاءات إلى أن مقدار الانبعاثات من الغازات التي تسبب الاحتباس الحراري التي ينتجها الفرد البشري بسبب الهدر (الفقدان) خلال مرحلة نقل الغذاء وتخزينه تبلغ حوالي 78 كيلوجرام من مكافئ ثاني أكسيد الكربون لكل فرد في السنة. وأن ما يعادل 38 كيلوجراما من هذه الانبعاثات يمكن تفاديها. أما الفاقد أثناء وجود الغذاء في البيت، وهو هدر يمكن تفاديه أيضا، فيقدر بحوالي 30 كيلوجرام في السنة. وينتج الفرد, في بعض البلدان المتحضرة التي لا تصاب باللوثة الغذائية الرمضانية, ما يزيد عن 7 كيلوجرام من مكافئ ثاني أكسيد الكربون في اليوم الواحد أو ما يعادل من 1.5 إلى 3.8 طنا مترياً سنوياً. ترى، كم ينتج الفرد في إقليمنا، الذي يعتمد اعتمادا شبه كلي على استيراد الأغذية، من انبعاثات مسببة للاحتباس الحراري؟ ربما الضعف! فمن الثابت أن كمية المخلفات المنزلية الصلبة بما فيها المخلفات الغذائية ترتبط بدخل الفرد والناتج القومي، إلا أن سلوكيات المجتمع ونظرته للعالم من حوله تؤثران بشكل كبير في كمية المخلفات. فعلى سبيل المثال، مستوى الدخل الفردي والقومي متقاربان بين اليابان والولايات المتحدة الأمريكية، إلا أن الفرد الأمريكي ينتج ضعفي ما ينتجه الفرد الياباني من مخلفات صلبة سنويا (800 كيلوجراما مقابل 400 كيلوجراما).

إن طنا من فضلات الأغذية ينتج ما بين 55 – 65 كيلوجراما من الميثان، كما أن كيلوجراما من فضلات الرز ينتج 2750 جراما من مكافئ ثاني أكسيد الكربون ، ومن القمح 1000 جراما، ومن الخضروات 250 جراما ومن الفاكهة 70 جراما. إن خفض شراء هذه الأغذية وغيرها وبالتالي خفض فضلاتها يساهم في خفض الانبعاثات الغازية الضارة. فالحسابات تبين أن خفض شراء الغذاء وخفض الهدر فيه والفاقد منه يؤدي إلى خفض في انبعاث الغازات المسببة للاحتباس الحراري بما يعادل 2.6 كجم مكافئ ثاني أكسيد الكربون للفرد في اليوم أو ما يعادل 0.94 طنا متريا للفرد في السنة. أي أن مليون شخص قد يساهمون بخفض 940 ألف طن متري سنوياً.

وقد عمدت الجهات المسئولة عالميا عن مراقبة الانبعاثات الغازية المسببة للاحتباس الحراري إلى وضع أهداف مسقبلية لخفض هذه الانبعاثات. ترى كما سيساهم الفرد في البحرين وفي دول الخليج الأخرى في تقليل الانبعاثات لو عمل على ترشيد استهلاكه من الغذاء وخصوصا في شهر رمضان المبارك؟ قد لا تكون المساهمة كبيرة جدا لو وضعنا في اعتبارنا أن مصدر انبعاث ثاني أكسيد الكربون الأساسي هو حرق الوقود الأحفوري، وأن عدد السكان في دول الخليج ليس كبيرا. ومع ذلك فالمساهمة تبقى مهمة لاعتبارات مختلفة إنسانية وحضارية لأننا جميعا شركاء في التسبب في حدوثها، وإن تفاوتت النسب، وفي كوننا عرضة لتبعاتها على حد سواء، وأننا ماهرون جدا في هدر الغذاء تحت مسميات لا طائل منها. ولا يجب أن ننسى أن مخلفات الغذاء تنتج الميثان الذي يزيد عشرين مره في ضرره عن ضرر ثاني أكسيد الكربون.

هناك قول شعبي مأثور لا زالت والدتي تستعيده مرارا وتكرارا وينطبق على واقعنا مفاده: «من أكل ولا حسب خرب بيته ولا درى!» فدعونا نحسب هدرنا ونحاسب أنفسنا ونتقي الله في الشهر الفضيل، وأن لا نحوله إلى شهر فضلات.

إقرأ أيضا لـ "عبد الأمير الليث"

العدد 4325 - الخميس 10 يوليو 2014م الموافق 12 رمضان 1435هـ





التعليقات
تنويه : التعليقات لا تعبر عن رأي الصحيفة

  • أضف تعليق أنت تعلق كزائر، لتتمكن من التعليق بـ3000 حرف قم بـتسجيل عضوية
    اكتب رمز الأمان

اقرأ ايضاً