أدى قيام الدولة القطرية في المنطقة العربية إلى تعزيز سيادتها وإمساكها بزمام الأمن والوحدة بعدما كانت معظم هذه المناطق تعيش حالة من الفوضى والصراعات والنزاعات القبلية والجبهوية المختلفة. ولم تأتِ معظم الأنظمة السياسية كنتاج لمطالب ومشاركة شعبية، لهذا فقد انحصر الحكم فيها لدى أقلية مهيمنة كان همها الأول والأخير ضمان الاستمرار في سدة الحكم لأطول فترة زمنية ممكنة.
لذا فقد ركزت معظم الأنظمة في المنطقة العربية على الجانب الأمني، وعلى تغليب أنماط وأيدلوجيات فكرية ودينية وسياسية محددة، وقمعت كل من يختلف معها، أو يطالب بالمشاركة والإنصاف.
وعلى الرغم من حصول تطور تنموي ملحوظ في مختلف هذه الدول وسعي لإصلاح وتطوير الهياكل التنظيمية فيها، إلا أن البنى الأساسية فيها لم تتغير منذ نشأتها.
عدوى التوريث في الحكم التي انتقلت إلى الأنظمة الجمهورية، والهيمنة الكاملة على مصادر الثروات الوطنية بصورة غير مشروعة، ونزعة تصفية الجماعات المعارضة هي من أبرز مظاهر نمو حالة الاستحواذ واحتكار السلطات.
هذه الأنماط من تشكُّل الأنظمة السياسية لا يمكن أن تقود إلى قيام دولة عصرية مدنية جامعة، تحقق الأمن والاستقرار، وتضمن حياة كريمة لمواطنيها على الرغم من كل مظاهر السيطرة الأمنية والهيمنة السياسية. هذا كله قد يفسر عودة عديد من القوى الاجتماعية الصاعدة في المنطقة العربية إلى الانتظام خارج إطار الدولة الوطنية والخروج عليها تحت مسميات مختلفة، خصوصاً مع انسداد أطر المشاركة السياسية وقدرة الأنظمة على إدارة التنوع الإثني والديني والاجتماعي والثقافي.
من مظاهر المرحلة التي نعيشها العودة لعصور العصابات المنفلتة من نظام الدولة المركزية التي تسعى لفرض إرادتها السياسية والفكرية بصورة قسرية، وتحقيق مواقع لها على الأرض عبر استخدام مختلف الوسائل وعلى رأسها العنف الأعمى ضد مخالفيها.
تحت مسميات مختلفة وأهداف متعددة برزت ظاهرة العصابات المسلحة التي تتخذ من الصراع السياسي والأيديولوجي مبرراً لوجودها، ونمت بصورة متسارعة في المنطقة العربية. واللافت في الأمر أنها تلقى تجاوباً ملموساً وقبولاً فعلياً أو ضمنياً من جماعات ممتدة بينها مثقفون وشخصيات دينية وسياسية باعتبار أنها تعبِّر عن رفض لأداء الدولة العربية.
والملاحظ أنه في كل قطر عربي تشتد فيه القبضة الأمنية ويُحتَكر فيه الفضاء السياسي، تتشكل الأيديولوجيات بذات الصورة التي كانت سائدة أيام حروب القبائل العربية، مع تنوع في أساليب العمل والتعبئة ومبررات المواجهة والاستقطاب.
إن إعادة صياغة النظام السياسي العربي بما يكفل مساحة أوسع من المشاركة السياسية هو أحد الحلول لمواجهة هذا التحدي الحقيقي الذي يهدّد أمن المجتمعات واستقرار الأوطان، ويساهم في الحد من نمو الجماعات والعصابات المتطرفة.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الشايب"العدد 4324 - الأربعاء 09 يوليو 2014م الموافق 11 رمضان 1435هـ