لا نأتي بجديد حين نتناول ما يعرف بـ «الدولة الناقصة»؛ إذ تتضح أوجه ذلك النقص في برلمان «واجهة» لا تمثيل فيه للمعارضة. برلمان يتم تفصيله بحسب المقاييس، طولاً وعرضاً، وانتماء، ومشارب، وارتهاناً، واستعداداً لأداء الفصل التشريعي في صور تبعث على اطمئنان الحكومة التي تدير الأجهزة جميعها، وليس الجهاز التنفيذي وحده.
وهنالك أوجه للدولة الناقصة حين تنتقص من سيادتها أيضاً في الأزمات، وتحت عناوين عائمة وتبريرات لن تصمد أمام الحقائق والوقائع على الأرض وإن طال الزمن.
وللدولة الناقصة أوجه وصور تبرز في شيوع التمييز بين المكوّنات. مثل ذلك التمييز لن يجلب ما يدل على الاستقرار، وتكون فيه «الدولة» بالتصنيف ذاك متحفزة لصد منافذ التوتر استنزافاً لزمنها ومواردها وأجهزتها؛ ما يؤخر قدرتها على اللحاق بمن حولها على المستويات كافة؛ وإن انشدّت إلى حال من النوستالجيا؛ في ما حققته وكانت رائدة فيه؛ لأن الأمم لا تتعاطف في صراعها الوجودي للحاق باحتلال مواقعها، مع الذين أنتجوا الأزمات لشعوبهم، فباتوا في الذيل من الركب والترتيب.
وفي الدولة الناقصة يبرز البؤس كأنه الإنجاز الأوحد؛ في ظل هيمنة واحتكار للثروات في يد مجموعات متنفذة، واقتصاد مختطف من الكبار، وانعدام فرص الذين لا ينتمون لنادي التنفّذ ممن يمتلكون مواهب اللعب بالبيضة والحجر وما طالته الأيدي والقلوب والضمائر!
وفي الدولة الناقصة تظل المكنة المسيِّرة لشئونها، إطلاق يد الفساد ترتع وتلعب كيف وأنّى شاءت، وضمن حدود منتفعة ولا تخرج عن دائرة تسيير شئونها.
كما أن في الدولة الناقصة أكثر المواد المنبّهة: التخوين، وأسهل مدخل يتيح لمثل تلك «الدولة» حرمان معارضيها من أدنى الأدنى من حقوقهم التي تظل ضمن مساحة «الافتراض» ولا تتعداه. وترى من ملامح الدولة الناقصة التكالب على صوغ القوانين والتشريعات التي تضمن لها الهيمنة على كل مفاصل الحياة؛ والتأكد من أن القوانين وضعت أساساً لحماية العوار والخلل والتجاوزات من قبل طرفٍ هي تحدّده ويمكن له أن يكون متحولاً تبعاً لتحول تلك الأطراف!
وفي الدولة الناقصة التي لا فضاء حقيقياً يتحرك فيه الإنسان، تعمد إلى إحكام الخناق عبر تجنيد أجهزتها وأفراد من الباطن، على الفضاءات المتاحة التي لا سطوة لها عليها، في إحصاء أنفاس الناس، وتفكيك النوايا والمجازات والاستعارات والتشبيهات التي يكتظ بها الفضاء الافتراضي من خلال وسائل التواصل الاجتماعي؛ تلك التي تمثل في جانب كبير منها مساحة تنفيس عمّا صُودر ورُوقب وجُرّم، ويتزامن ذلك مع حركة متحوّلة في إعادة صوغ مواد التجريم وتغليظ العقوبات بتهم تظل عائمة ولا مسوّغ قانونياً لها في كثير من الأحيان.
وفي الدولة الناقصة سترى تراكم المنابر والصحف ووسائل الإعلام التي لا وظيفة لها إلا تجميل القبْح، وتهويل الإنجاز مهما صغر، ومكمّلاً لنواقص تبدأ ولكنها لا تنتهي. مثل تلك المنابر والصحف ووسائل الإعلام تعزّز من دور القبضة الأمنية والرقابية والتجاوزات التي تمارس من قبل تلك الدولة، وتأخذ بالحريات إلى مناطق معلومة من التغييب والتحقير والتسفيه وممارسة التخوين الذي يكاد يسم قطاعاً عريضاً من الفئات والتشكيلات المعارضة!
وفي الدولة الناقصة ترى أعمار الناس تذوي كما تذوي أوراق الخريف، وطاقاتهم معطّلة ومركونة ريثما يعاد النظر في نوايا أصحابها وتخلّيهم عن انتماءاتهم التي ترى فيها مثل تلك الدولة منفذاً من منافذ الأخطار التي ستقوّض ما تم إنجازه، وحين تمعن النظر في الإنجاز الذي تحرص تلك الدولة على عدم المساس به، فلن يتجاوز مؤسسات أمنية وشبكات من الرصد والتتبّع والتنصت، وأدبيات يعاد اجترارها عبر الوسائل التي تهيمن عليها، تتجاوز في السخرية منها حدودها إلى ما بعدها من حدود.
وفي الدولة الناقصة لن تحتاج إلى كبير جهد كي تكتشف أنها علاوة على التهديد الذي يشكِّله المعارضون لها؛ تُوجِد هي أسباب تهديدها بشكل آلي من خلال انعدام تحكيم للقانون؛ وفي تناسل غريب وعجيب للتشريعات التى تتوهّم أنها تحصّنها؛ فيما هي تعجّل في تآكلها وانكشافها ليس على مستوى الداخل فحسب؛ بل وأمام العالم.
ويُراد للحياة أن تكون نموذجية وكاملة في ظل «دولة ناقصة» مثل تلك!
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4324 - الأربعاء 09 يوليو 2014م الموافق 11 رمضان 1435هـ
مقاله رائعه
لقد امتعتنا بكل حرف في هذه المقاله سلمت يداك
بورك فيك
مقال جميل ورصين وموزون يضع اليد على الجرح لمن أراد أن يعي ولاشلت أناملك