تداعيات كثيرة، أفرزتها الحرب الكونية الأولى، نصيب العرب منها حصة الأسد، ولازالت تداعياتها علينا مستمرة، إلى أن يأتي اليوم الذي تتغير فيه موازين القوة لصالح الأمة، فتكون قادرة على استعادة مجدها، وأخذها مكانها اللائق، بين الأمم
لم يكن اغتيال ولي عهد النمسا، من قبل طالب صربي سوى الشرارة التي أشعلت الحرب العالمية الأولى، التي اندلعت في الثامن عشر من يونيو عام 1914. فالحروب لا تنشأ بين ليلة وضحاها، بل هي الملجأ الأخير، حين يعجز الفرقاء المنهمكون في الصراع، عن تطبيق أهدافهم واستراتيجياتهم بالخيارات السلمية. فيتحول صوت الرصاص، وهدير الطائرات، وجعجعة السلاح، إلى شكل آخر من أشكال التفاوض. شكل كانت نتائجه مصرع عشرة ملايين من البشر، وضعفهم من الجرحى. هذا عدا ما خلفته الحرب، من خراب ودمار، ومآسٍ أخلاقية واجتماعية واقتصادية.
لقد كانت أوروبا، منذ نهاية القرن التاسع عشر، في انتظار حدث رهيب وعاصف. وكان الخلل في موازين القوى الدولية، يشي بمغيب إمبراطوريات، وبزوغ وتمدد أخرى. فالرجل المريض بالأستانة، كان يحتضر، وفي حالة انتظار لرصاصة الرحمة. فقد تضافرت الصراعات الداخلية المريرة، بين أعضاء الأسرة العثمانية، على إضعاف السلطنة. وحرض ذلك دول البلقان، على الانفصال عنها، الواحدة تلو الأخرى.
وكانت روسيا القيصرية، تشهد انتفاضات كبرى، وتململ شعبي قوي منذ مطلع القرن العشرين. أما ألمانيا، فإنها ظلت تبحث عن مخرج لأزماتها الاقتصادية والسياسية. وكانت الحرب وكلفتها الباهظة، وهروب آلاف الجنود الروس من الجبهة، قد عبد الطريق لاندلاع الثورة على القيصر في فبراير عام 1917، وإقامة حكومة مدنية، شاركت فيها معظم القوى السياسية الفاعلة، برئاسة الكسندر كيرنسكي، التي مهدت الطريق لانقلاب آخر، قاده البلاشفة، بقيادة فلاديمير إليتش لينين.
والحال هذا ينسحب على معظم الدول الأوروبية التي شاركت في الحرب. ولم يكن اغتيال ولي عهد النمسا إذاً، سوى القشة التي قصمت ظهر الجمل. لقد حان موعد تغيير موازين القوة في الصراع الدولي، وكان صراع الإرادات هو المحرض الأول والعامل الحاسم في اشتعال الحرب.
في الوطن العربي، مارس العثمانيون نهجا عنصريا مقيتا، ولم يقبلوا بتلبية التطلعات الوطنية للشعوب العربية، في النهضة والتنمية. وبرزت جمعيات ثقافية وسياسية عربية، في مراكز الإشعاع، كما برزت جمعيات عربية، في الأستانة، أبرزها الجمعية القحطانية، طالبت حكوماتها بالاعتراف بالحقوق الثقافية للعرب. وكانت ردة فعل سلاطين آل عثمان، المزيد من القهر للشعوب العربية، ورفض تلبية المطالب القومية والوطنية المشروعة، بل والتصدي بقوة الحديد والنار، لتلك التطلعات.
وكان اندلاع الحرب العالمية الأولى، مناسبة لكي يصعد العرب مطالبهم، ولترتقي تلك المطالب، من السعي لنيل بعض الحقوق الثقافية، والاستقلال الذاتي عن العثمانيين، إلى المطالبة بالانفصال عن السلطنة وتحقيق الاستقلال السياسي الكامل. وقد تصور زعماء النهضة في بلاد الشام والعراق، وشريف مكة، أن التحالف مع الغرب، ودخول الحرب إلى جانب الحلفاء، ضد السلطنة العثمانية، سوف يؤدي إلى استقلال المشرق العربي.
وعلى هذا الأساس، شارك العرب في الحرب، إلى جانب البريطانيين والفرنسيين. وعندما بدأت كفة النصر، تميل لصالح الحلفاء، نكث الحلفاء وعودهم للعرب. وتبنوا مشروعين كان لهما إسقاطاتهما على الوضع العربي، حتى يومنا هذا. كان المشروع هو ما عرف باتفاقية سايكس- بيكو. وبموجبها قسم المشرق العربي بين البريطانيين والفرنسيين. ونصب أبناء الشريف حسين، ملوك وصاية على الأردن والعراق. ووضعت فلسطين تحت الانتداب البريطاني، وسورية ولبنان تحت الاستعمار الفرنسي المباشر. وتكشف أن المعاهدات والخرائط، والمراسلات التي جرت بين زعماء الثورة العربية، والمندوب السامي البريطاني، اللورد ماكماهون لم تساو الحبر الذي كتبت به.
أما المشروع الثاني، فكان وعد بلفور، الذي قدمه وزير الخارجية البريطاني، لرئيس الجالية اليهودية في لندن، وبالتالي للمؤتمر الصهيوني، الذي وعد فيه بإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين. فكان أن وضع هذا المشروع، كما وضعت من قبله اتفاقية سايكس- بيكو قيد التنفيذ.
موازين القوى الجديدة، بعد الحرب شهدت خروج الولايات المتحدة الأميركية من خلف المحيط إلى قلب العالم، لتتهيأ بعد عدة عقود لقيادة العالم، تشاطرها في ذلك القوة السوفييتية، التي تأسست في خضم أوار الحرب. وكانت مبادئ الرئيس الأميركي ويدرو ويلسون، حول حقوق الإنسان، وحق تقرير المصير للأمم التي تقع تحت الاحتلال، قد عبدت الطريق للكفاح الوطني ضد الاستعمار التقليدي، الذي بدأت طلائعه، في موقعة ميسلون على الأرض السورية، بقيادة الشهيد يوسف العظمة.
وكانت الاستعاضة عن استخدام تعبير الاستعمار، بتعابير أخف حدة، كالحماية والوصاية والانتداب، مرحلة أولى على طريق هزيمة البريطانيين والفرنسيين، لاحقا بعد الحرب الكونية الثانية، ولتبرز حقائق جديدة أخرى، تعبر عن معادلات القوة، في المرحلة التي أعقبت الحرب الكونية الثانية.
تمخض عن الحرب الكونية الأولى، حقائق عدة، لعل أهمها تأسيس عصبة الأمم، لتكون مؤسسة جديدة، ناظمة للعلاقات الدولية، ومجسدة حرص الأمم على السلام، والابتعاد عن لغة الحروب واستخدام القوة. وتمخض عنها أيضا هزيمة ساحقة لألمانيا. ولتكون هذه الهزيمة، والشروط المهينة التي فرضت على المهزومين، عاملا رئيسا، في اندلاع الحرب العالمية الثانية، بعد وصول أدولف هتلر إلى السلطة، وتعهده بغسل عار الهزيمة، الذي ألحقه بشعبه، الفرنسيون والبريطانيون، فكانت حربا أخرى أكثر عنفا وفتكا، ولتصدق مقولة أن كل الحروب في العادة تلد حروبا أخرى.
هزمت ألمانيا، وسقطت السلطنة العثمانية، وأقيم على أنقاضها جمهورية بنظام علماني، أسسه مصطفى كمال أتاتورك، تنكر للغة وللثقافة العربية، وأبدل الحروف العربية التي استخدمها الأتراك عدة قرون، إلى الحروف اللاتينية. تسلم الشيوعيون أول مرة في تاريخهم، دولة كبرى بحجم روسيا، وتراجعت قوة الاستعمار التقليدي، وقسم الوطن العربي، وتضاعفت الهجرة اليهودية لفلسطين، وتأسس الكيان الصهيوني الغاصب، عام 1948. وبرزت الولايات المتحدة الأميركية، كقوة كبرى، يحسب حسابها في صناعة القرارات الأممية.
تداعيات كثيرة، أفرزتها الحرب الكونية الأولى، نصيب العرب منها حصة الأسد، ولازالت تداعياتها علينا مستمرة، إلى أن يأتي اليوم الذي تتغير فيه موازين القوة لصالح الأمة، فتكون قادرة على استعادة مجدها، وأخذها مكانها اللائق، بين الأمم، في عالم لا يحترم سوى لغة القوة، التي هي رهن للوعي والقدرة والإرادة.
إقرأ أيضا لـ "يوسف مكي "العدد 4323 - الثلثاء 08 يوليو 2014م الموافق 10 رمضان 1435هـ
ما حفز انتباهي
في الفقرة الاولي كتب الكاتب: الي ان ياتي اليوم الذي..... قول حقيقي. يعني يا امة انتظروا فإننا معكم من المنتظرين. هذا هو الوقع. امة لم و لا تفعل اي شيئ و تنتظر ان يفعل لها من قبل الغير. هل اعلق اكثر. في فمي ماء و هل اقدر التكلم ؟؟؟