للمصادفة ونحن في مجلس رمضاني مستمر، نشير إلي أنها أُنشئت في السادس عشر من شهر رمضان من العام 1406هـ (24 مايو 1986)، وقد مضى عليها الآن حوالي 28 عاماً، إنها جامعة البحرين بمختلف كلياتها. وفي جانب آخر، تفيد إحصائية تقريبية بأن من يحملون درجة الأستاذية في الجامعة اليوم، وهي الجامعة الرسمية الوحيدة، لا يتعدى عدد أصابع اليدين إلا بقليل، فما بالك بالجامعات الخاصة. ومن المعروف أن الدرجة التي تجعل الدكتور أستاذاً في علمه وعمله الأكاديمي، أي يُطلق عليه Professor))، لا تُمنح إلا من قبل جامعة مُعترف بها وبنتيجة تراكمية من البحوث والدراسات العلمية لهذا الدكتور، وما يُدعمها على أرض الواقع العملي من أنشطة أكاديمية أيضاً، يرافقها شبه امتحان أمام لجان أكاديمية في الجامعة التي يعمل بها ليصل بعدها لتلك الدرجة العلمية.
إذن الرقم المذكور قليل مقارنة بعدد الأكاديميين في هذه الجامعة الحكومية، وفي ظل سياسة بعثات الجامعة لعدد من منتسبيها للحصول على درجات الماجستير والدكتوراه خارج البحرين. أضف إلى ذلك، أن عدداً آخر من مدرسيها انضموا إليها وقد أنهوا تعلميهم الأكاديمي العالي على حسابهم الخاص. فأين الخلل في ذلك؟ على الرغم من أن البحرين، بين دول مجلس التعاون، تعتبر من أوائل من بدأ فيها التعليم في العقد الثاني من القرن العشرين، وهي قبل ذلك كانت منارةً للعلم الأهلي غير النظامي في الخليج لقرون مضت. فما الذي حدث لرأس المال المعرفي البحريني، كماً ونوعاً، وأين الإنتاج العلمي والبحوث الأكاديمية التي من المفترض أن تكون البحرين الأولى فيها لأن عدد الأكاديميين بها اليوم ليس بسيطاً أيضاً؟
وبمراجعة بسيطة للـ «بيبليوغرافيا» الوطنية للدولة بين 2000-2009، والتي يقال أنها السنوات الخصبة للإنتاج المعرفي المحلي؛ ولمعجم المؤلفين البحرينيين لأكثر من مئة عام، لا نكاد نرى إلا لماماً إنتاجاً علمياً رصيناً لهؤلاء الأكاديميين، بخلاف الهروب تجاه الإنتاج الشكلي ومنه النقدي الأدبي، أو مجرد رؤى في قضايا فكرية عامة بعيدة عن الواقع المجتمعي الذي يتطلب وجود الباحث الحقيقي فيه بهدف تنميته أو تطويره للأفضل حضارياً.
أليس الأكاديمي من المفترض أن يكون هو مشعل الطريق لهذه الأمة المنكوبة دهراً في طريق الظلمة الذي دُفعت إليه في أحقاب عديدة من تاريخها؟
مع الأخذ على بعض الأكاديميين عندنا الذين شحذوا أقلامهم وفكرهم مؤخراً للنفاق والدفاع عن الأخطاء البيّنة منذ سنوات، لهاثاً وراء مناصب ومكاسب آنية، بدلاً من البحث العلمي الرصين والصادق المفيد للمجتمع وتطوره؛ مع أننا لا ندّعي أن بقية الأكاديميين هم المذنبون الوحيدون في تخلف البحث العلمي. فالتكوين السيكولوجي الذي تربّى عليه الأكاديمي، يعتمد منذ الصغر على أن كل دراسة أو درجة علمية يحصل عليها هي أولاً مِنّةٌ من الدولة عليه، وهي ليست هدفاً لذاتها، بل للبحث عن وظيفة، على طريقة سياسة «دنلوب» الانجليزية، في تغريب التعليم بتطبيق المثل الإنجليزي المعروف «بطيء... لكنه أكيد المفعول»، حيث حدّد التعليم بتخريج طلبة من المدارس المدنية يعينون في الدواوين والوزارات الحكومية مباشرة مع صرف رواتب مغرية لهم، وهذا هو حال الأكاديمي اليوم.
أضف إلى ذلك، أن الإرث التربوي المجتمعي المغلف بالرعب، الذي ترسّخ في نفسية وذهنية الأكاديمي وأبعده عن عالم الفضول والجرأة والمغامرة العلمية، إلا ما ندر، جعله يتحاشى البحوث، وإن اضطر فإنه يلجأ إلى التقية في بحوثه الأكاديمية خوفاً من منعها، أو بالابتعاد عن مشاكل مجتمعه ترفعاً، أو بسبب الإشكالية الأزلية بين الأكاديمي والسلطة، وهي التي يقشعر بدنها دائماً كلما رفع الأكاديمي صوته في صف الناس وابتعد عن التزلف لها.
والإشكال في جامعاتنا الحكومية والأهلية أنها لا تنظر إلى النوعية والتميز لدى الباحث الأكاديمي، بل تنظر لعدد الحصص التي يدخلها، والامتحانات، والمراقبة، وتصحيح الأوراق، والأعمال الإدارية الأخرى، مع كمية من التملق لدى البعض هنا وهناك. وعلى أساس هذه الخلطة العجيبة الشكلية، تُمنح الترقيات والدرجات المالية، وليس العلمية!
ورداً على هذا الوضع ربما يقول أحد هؤلاء، كيف تريدون دفع الأكاديمي لمواقع قيادة المجتمع وبغزارة ونوعية البحث العلمي، ويتم إرهابه دائماً، حتى في فترة الحراك المستمر للشارع منذ أربع سنوات، رغم أن هؤلاء الأكاديميين لم تكن لهم يد خفية أو علنية فيما حدث في فبراير 2011، إلا أن الترهيب طالهم من شتى النواحي، فزاد البحث العلمي عندهم جفافاً وليس بللاً.
ولن نضرب هنا مثلاً مرةً أخرى بالكيان الصهيوني، ولكن بدول مثل كوريا الجنوبية التي تنفق (3%) على البحث العلمي، وسنغافورة (2.1%)، واليابان (3.5%). أما ما ينفق على البحث العلمي في منظومة مجلس التعاون، مقارنةً بدخل عائدات النفط الخيالية في الخليج، فنخجل من ذكر الرقم، لأنه أقل من ربع الواحد في المئة (21,.%)، أي أقل من نصف الواحد في المئة. وأيضاً، بالمقارنة مثلاً مع صرف 60 مليار دولار لشراء طائرات حربية أميركية، أو بريطانية، أو فرنسية، والتغني بأنها «صفقة القرن»، بمعنى أننا نحن من يمد البحث العلمي في الدول الغربية بميزانية تقدمه وتطوره حتى في أسلحة الدمار! أما في البحرين، فلا حول ولا قوة، فنفقات البحث العلمي وبحسب إحصائيات اليونسكو، أقل من (4.,.%)، وهذا طبعاً قبل أحداث السنوات الأربع الأخيرة العجاف.
أما دور القطاع الخاص في رفد ودعم الأكاديميين والبحث العلمي فيشير تقرير التنمية البشرية العربية إلى تقاعس القطاع الخاص في تمويل البحث العلمي، حيث لا يساهم هذا القطاع، للأسف وهو الأضخم في دولنا ودماء شرايينه من دمائنا، إلا بحوالي 3% من نفقات البحث العلمي في دول مجلس التعاون كافة، ولا حاجة للبحث عن الأرقام الخاصة بالبحرين ضمنها حتى لا نُغطى وجوهنا خجلاً!
خاتمة المطاف، والجراح عديدة والحسرات مديدة، أنه في ترتيب أفضل 10 جامعات عربية ومنها الخليجية بحسب تصنيف (WeboMetrics) الإسباني لشهر يونيو 2014، لا نجد أي ذكر لجامعة بحرينية ومنها الحكومية طبعاً، مع أن المسئولين مازالوا يتفاخرون بتطور التعليم العالي عندنا! كيف ذلك؟ وما هو المعيار إذا لم يكن عربياً ولا عالمياً، هل هو معيار محلي شعبي؟
وكما عبر أحد الباحثين البحرينيين عن مأساة البحث العلمي بقوله: «لا تعد مجالس البحث العلمي أكثر من مجالس شكلية، لم تخرج ببرامج نوعية ذات صبغة مجتمعية استراتيجية، تترك الآثار الواضحة على مسار التنمية والتحديث الوطني... فينبغي أن نمعن النظر في دلالات وتعقيدات وأمثلة الجمود التاريخي للنخب الأكاديمية التي يفترض أنها تحمل رسالة التحديث والتمرد والإصلاح الديمقراطي في العالم العربي».
فمن هو المسئول عن هذا التخلف؟ الأكاديمي نفسه، أم الظروف المحيطة به والتي سلبته روحه العلمية، وزرعت بدلاً منها روح الخوف والتوجس من ملامسة الخطوط الحُمر في كل عمل علمي، ما جعله يعيش غربتين في الوقت ذاته: غربة النفس داخلياً، وغربة وطن خارجياً... وليس لحديث المجلس تتمة!
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 4322 - الإثنين 07 يوليو 2014م الموافق 09 رمضان 1435هـ
ليس الخوف من السلطة وحدها!
رغم صوابية ما ذكرت، خاصة بشأن ممارسة الباحث أو الأكاديمي؛ التقية خوفاً من السلطة أو تحاشياً لـ "دوشة الرأس" من أساسها، إلا أنهُ كذلك يضع المجتمع من حوله في الإعتبار، فيقوم -في بعض الأحيان- بمقام السلطة التي يهابها، ويهاب الإفصاح عن حقائقه خوفاً منها! لا يقل خوف بعض الباحثين من سلطة المجتمع، عن خوفهم من السلطة السياسية، وللأولى جبروتها خاصة في ظل الغوغائية واتباع كل ناعق! شكراً لك على هذا الطرح..
أمور عديدة يمكن البحث فيها
العديد من الأمور بحاجة إلى تحليل معمق لمعرفة الأسباب.. ولكن مع دراسة استقرائية للموضوع، فالمفترض مواكبة الجامعات العريقة بالإلمام بمبادئها ومناهجها والتعرف على أسس النجاح المعرفي لديها، والذي من شأنه تجديد الهيكلية القائمة حاليا والعقيمة في إنتاج الفكر الأكاديمي المبدع..
الإبداع والبحث العلمي بحاجة لمجهود كبير ومنها الحرية الفكرية، المتابعة الحثيثة لآخر مستجدات العلم الحديث للنهل منه، الإرادة الإبداعية العلمية الهادفة التي تصب اهتمامها على الإنتاج الرصين.