يُروى في القصص التراثية، أن أميراً التقى مزارعاً في السوق، وأدهشه أن المزارع يحمل بعض سمات الشبه منه، فأوقف الأمير موكبه ليسأل المزارع، هل أمك تعمل عندنا في القصر؟ فأجابه المزارع: كلا سيدي بل أبي كان يعمل في قصر أبيك.
الأمير صاغ السؤال بما هو معتاد أن يجده جواباً، لكثرة الجواري والخدم العاملين في قصر أبيه، وللأمير أن يعاشر جواريه وخادماته، بما أحله فهمه للدين عمّا ملكت يمينه، أي الإماء والجواري المشتراة بالمال، لذا سأل الأمير المزارع، بما في نفسه وعقله وفكره وثقافته، وهو بهذا السؤال، إنما أصغى لتلقي جواب بديهي احتكرته طبقته الاجتماعية والاقتصادية والثقافية في ذهنه، أما المزارع فلم يكن يحده، إلا بديهية مرتبطة بالواقع الصادق، فأجابه بما يعرف وخيّب ظنه.
لا يرون الصحيح والعادل، إلا من خلال ما تعج به أدمغتهم، التي تختزن إرث ما نهلوا عبر ترف حياتهم، وعلاقاتهم العائلية والاجتماعية في محيط من الارستقراطية المرفهة، وهي البيئة التي أنشأتهم، وانتموا إليها بكل مكوناتها الجزئية في خلاصة، هي الأثرة في التمييز وتسهيل الإجراءات، بما يجعلهم يصيغون السؤال على طريقة الأمير في القصة عاليه.
وإن لم يجد صاحبنا موضوعاً للسؤال أو الحديث، في مصادفات يومه كما حصل مع الأمير لوجدته، أي المثقف الأجير أو عبد الطائفة، يستخرجه من قول متقيح، في أبعد بقاع الأرض وسحيق الزمان، فترى في محافل الاجتماعات والمجالس، ثلاثة أنواع من متداولي الحديث، ممن يتباهون بثقافتهم اليسيرة، مجهولة المصدر وعديمة الإثبات، إلا من نسيج خيال أصحاب الفتن المبثوثة في وسائل التواصل الاجتماعي، بأنها عين الصواب، فيبدأ واحدهم بذكر طائفة من الناس بالسوء، ليدلل على أن طائفته هي النقية وطاهرة السريرة، مستدلاً في ذلك بقول وتصرف نفرٍ من شواذ بعض تلك الطائفة، أو بالابتلاء كذباً على بعضها الآخر، تماماً كما هو ذاته شذوذ في طائفته.
أول أولئك الثلاثة، هو الكاذب القاذع، بما تطرب لقوله آذان مثله من الشواذ، هو يعلم أنه كاذب، وأصحابه يعلمون كذلك، مثل ذاك الذي يستنسخ حدثاً ما، اشتكاه أحدهم في مكان وزمان بعينه، بأنه حدث معه وبكل تفاصيله، وما الاختلاف إلا في البطل المغوار أو المغلوب على أمره، حسب الحال المرتجى من وراء السرد المنسوخ، ومن أجل احتلال صدارة الحدث.
وثانيهم من يخرج خارج حدود الواقع المعاش في بلده، إلى ساحات شبكة المعلومات العنكبوتية (النت)، ليبحث وسيجد وسيضيف، ما تأتيه نفسه الأمارة بالسوء، للتدليل على تضرر نفرٍ من طائفته، جراء تصرف نفرٍ من الطائفة الأخرى، ولن يكون وراء ذلك من سبب ودافع، إلا ما تسبح به نفسه وعقله الطائفي، فستراه مثلاً، يسرد حادثة طفل داس على رجل آخر يلعب وإياه كرة قدم، بأنه متعمد ذلك، ويزيد القول ليفارق ما بين الطفلين طائفياً.
وثالثهم المثقف السياسي المؤدلج بالطائفية، الذي يبدأ حواراً له مع المختلف، بالعيب على رئيس حكومة بلد ما غير بلده، ويربط تسلطه على شعبه بانتمائه الطائفي، ليدلل أن تلك الطائفة، متسمة بالسوءات التي تجعلها تبطش بطائفته أي المتحدث، وحين الحديث عن داخل الوطن، يرفض صاحبنا مجرد الحديث عن أسماء الطوائف، لأنه يرى أن تسمية طائفة باسمها قبالة اسم طائفة أخرى، هي اتصاف وممارسة للطائفية، يتهم بها غيره، في حين أنه لا يرى أي سوأة في ذات الفعل والسياسات، التي تمارسها السلطات المحلية، تجاه غيره وغير أفراد طائفته، بل يبرر للسلطات بأنها تحمي الوطن من خيانة المواطنين من الطائفة الأخرى، في تعميم البعبع الطائفي الذي تتعرض له طائفته.
فمواقف عبد وأجير الطائفة، دائماً تتسيّج داخل حدود سياج الطائفة، إلى درجة أنه لو حكم القضاء بإدانة ومعاقبة معتدٍ أو متجاوزٍ للقانون، يرى في ذات العقوبة هونها، في حال فَرْضِها على المختلف طائفياً، ويرى فيها الغلظة الطائفية في حال كان الجاني من طائفته، وذات المعيار الطائفي يزن به صاحبنا بناء على طائفة القاضي أيضاً.
والخلاصة أن العقلية والوجدان الطائفي، يجعل من المرء حقاً، إما عبداً أو أجيراً لطائفته، فينسلخ من إنسانيته أولاً ومن دينه ثانياً، ومن قوميته ثالثاً، ومن مواطنته رابعاً، ولن يقبل بعدل وعدالة التساوي في الحقوق والواجبات، وسيرى في ذلك ظلماً له وبالتالي لطائفته، سواءً كان الحاكم من طائفته، فيبليه بأنه خائف من ويراعي الطائفة الأخرى، أو كان الحاكم من الطائفة الأخرى، ليبليه بما في نفسه المريضة بالطائفية. ولوسائل علاج هذه الأمراض مقام آخر.
إقرأ أيضا لـ "يعقوب سيادي"العدد 4320 - السبت 05 يوليو 2014م الموافق 07 رمضان 1435هـ
رائع
أستاذنا الكبير احسنت ووفق الله قلمك
أشعلوا الفتن الطائفية ونحن في ترقب النتائج التي ستحرق كلا البلاد والعباد
لن يكون احد بمنأى عن نتائج الفتن التي اشعلتها انظمة الخليج لتهرب من الاستحقاقات الشعبية
شكرا
مقال في الصميم