خلال حملة الانتخابات التمهيدية التي حصلت داخل صفوف الحزب الاشتراكي لتعيين مرشحه لمنافسة الرئيس المنتهية ولايته نيكولا ساركوزي، تعرض المرشح فرنسوا هولاند لحملات شرسة من «رفاقه» الاشتراكيين بسبب مزاجه «الرخو» وميله إلى التسويات وتلافي إغضاب أي أحد وحرصه الدائم على التوفيق بين المواقف الأكثر تناقضا. وقيل وقتها إن مزاج هولاند «لا يلائم» دستور وروحية الجمهورية الخامسة التي أسسها الجنرال ديغول في عام 1958. ذلك أن «بطل» فرنسا الحرة فصل الدستور على مقاسه فجعل من رئيس الجمهورية «واسطة العقد» الذي تتجمع في يده كثير من السلطات.
رأس الدولة في فرنسا هو الآمر الناهي. والقائد الأعلى للقوات المسلحة والمؤهل للضغط على الزر النووي فضلا عن كونه من يرسم السياسة الخارجية ويعين رئيس الحكومة والوزراء ويحل البرلمان. ورغم هذه الصلاحيات غير المتناهية، فإنه ليس من يمثل أمام البرلمان. وقيل في رئيس الجمهورية إنه يمتلك صلاحيات تفوق ما كان يتمتع به ملوك فرنسا في أوج عزهم.
واضح أن صلاحيات بهذا الاتساع تحتاج حقيقة لرجل حازم وقاطع خصوصا في ميدان السياسة الخارجية. والحال أن الجميع أصابوا في تقدير شخصية هولاند الذي دخل قصر الإليزيه لخمس سنوات في مايو (أيار) 2012 في إدارة شؤون البلاد الداخلية الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، حيث تبين سريعا طبعه الذي ينفر من الحسم والحزم. بيد أنهم أخطأوا في تقدير أدائه في السياسة الخارجية. هولاند أثبت أنه لا يتردد في الإقدام والمبادرة لا بل المخاطرة عبر إرسال القوات الفرنسية إذا وجد في ذلك ضرورة. ففي عام 2013 وحده، قام بـ«حربين» كلاهما في أفريقيا: الأولى في مالي، في 11 يناير (كانون الثاني) وهي عملية «سيرفال» والثانية في أفريقيا الوسطى «عملية سنغاريس» التي أطلقها في 5 ديسمبر (كانون الأول) من العام نفسه. ومع «سنغاريس» تكون باريس قد تدخلت عسكريا للمرة السابعة في أفريقيا الوسطى تحت حجج وذرائع متنوعة وهي في المرة الأخيرة ذهبت لوقف «المجازر».
تطول لائحة الدول الأفريقية التي أرسلت باريس قواتها إليها لسبب أو لآخر. وإذا عمدنا إلى تذكير سريع بالعمليات العسكرية «الرئيسية» التي نفذتها الفرقة الأجنبية الفرنسية في بلدان القارة السوداء لوجدنا مدى انبساطها الجغرافي، إذ إنها حصلت في البلدان التالية: تونس «عام 1961»، زائير «1978»، أفريقيا أوسطى «1979»، تشاد «1983»، زائير مجددا «1993»، رواندا «1994»، جزر القمر «1995»، ساحل العاج «2002»، ساحل العاج مجددا «2004»، تشاد مرة ثانية «2008»، ساحل العاج مرة ثالثة «2011»، ليبيا «2011» ثم مالي وأفريقيا الوسطى «2013».
تشي هذه اللائحة بأمر أساسي قوامه أن لأفريقيا موقعا خاصا لدى القوة المستعمرة السابقة «فرنسا» أكان رؤساء جمهوريتها من اليمين أو اليسار. فالمستعمرات الأفريقية السابقة ما زالت، بعد أكثر من 60 عاما من انفصالها عن فرنسا، مربوطة بها ربطا محكما عن طريق معاهدات دفاعية ثنائية مزدوجة الأغراض: الأول، حماية الأنظمة القائمة وتوفير مظلة دولية تقيها العقبات والعثرات على المستوى الدولي. والثاني، مقايضة الرعاية بالالتزام بالمحافظة على المصالح الفرنسية أكانت استراتيجية «اليورانيوم في النيجر والبترول في ساحل العاج، والغابون، وأنغولا، والكاميرون، وغينيا، وغانا، ونيجيريا، والسنغال..». أو اقتصادية تجارية.
لكن الأعوام الأخيرة أدخلت عاملا إضافيا يدفع فرنسا للإبقاء على قواتها المرابطة في أفريقيا ويتمثل في التهديدات الإرهابية خصصوا فيما يسمى «بلدان الساحل» أو أجزاء واسعة من أراضيها وهي تمتد من جنوب موريتانيا وحتى دارفور ووسط السودان وتشمل بعض مناطق السنغال ومالي والنيجر وأقصى الجنوب الجزائري والليبي وشمالي بوركينا فاسو ووسط تشاد. وتبين خريطة الوجود العسكري الفرنسي الدائم في عدد من البلدان الأفريقية أولويات باريس في هذه المنطقة. ومؤخرا عمدت القيادة العسكرية الفرنسية إلى إعادة تنظيم انتشارها في أفريقيا وتوجيهه لغرض أساسي وهو محاربة الإرهاب أكان متأتيا عن طريق القاعدة في بلاد المغرب الإسلامي أو المنظمات الرديفة أو الحديثة العهد التي نشأت بعد إسقاط نظام العقيد القذافي وتداعي أسس الدولة الليبية مع ما ترتب عنه من غياب الرقابة على الحدود وازدياد عمليات تهريب السلاح والمخدرات وتنقل المسلحين.
بداية العام الحالي، كانت القوات الفرنسية المنتشرة في أفريقيا تتمركز في تشاد والسنغال والغابون وجيبوتي والكاميرون وموريتانيا فضلا عن وجودها في مالي وأفريقيا الوسطى. وقبل شهرين استضافت باريس قمة خاصة عن نيجيريا غير الفرنكفونية والتي لم تكن يوما تحت الإدارة الفرنسية مما يعكس رغبة باريس في توسيع حضورها الأفريقي. وجاءت هذه القمة المختصرة عقب قمة موسعة بداية العام الحالي خصصت للأمن في أفريقيا. وعمد القادة الأفارقة، تحت إشراف الرئيس الفرنسي إلى اتخاذ قرارات أبرزها تكوين قوة أفريقية مشتركة للتدخل وحماية الاستقرار وتبادل المعلومات والتعاون الأمني وتكوين قوات حفظ السلام الأفريقية.
يكشف هذا العرض عن الأهمية الحيوية المطلقة التي تمثلها أفريقيا بالنسبة لفرنسا لأسباب تاريخية واستراتيجية وللعلاقة الخاصة التي تربط باريس بالعواصم الأفريقية الفرنكفونية التي تستدير صوب باريس كلما حل طارئ، وتوصف باريس بأنها «شرطي أفريقيا». ومع ازدياد المنافسة الاقتصادية والتجارية القادمة من الصين والدول الناشئة ضاعفت باريس جهودها للمحافظة على موقعها الأفريقي الريادي الذي برز في الأزمتين المالية والوسط أفريقية حيث كانت باريس سباقة في التدخل، بينما الدول الأوروبية الأخرى والولايات المتحدة كانت تجر أرجلها جرا.
في مذكراتها الصادرة مؤخرا تحت عنوان «زمن القرارات»، تروي وزيرة الخارجية الأميركية السابقة هيلاري كلينتون أن المشاركين في اجتماع استضافه قصر الإليزيه حول ليبيا في 19 مارس (آذار) 2011 استشاطوا غضبا عندما علموا أن الرئيس الفرنسي السابق نيكولا ساركوزي أمر طائرات الميراج الفرنسية بقصف أرتال الدبابات المتوجهة صوب مدينة بنغازي قبل انتهاء الاجتماع الذي رأسه. وتقول كلينتون عن ساركوزي: «كان يرى في الانتفاضة الليبية الفرصة لإبراز حضوره في دوامة الربيع العربي ولإظهار أنه هو أيضا في معسكر التغيير». وبحسب وزيرة خارجية الرئيس باراك أوباما في ولايته الأولى، فإن ساركوزي أراد استلحاق الوقت الضائع والتعويض عن غياب فرنسا وأخطائها في التعاطي مع الثورتين التونسية والمصرية. وبالفعل، لعب ساركوزي دور «المحرك» ليس فقط على الصعيد العسكري، حيث كان من أشد المتحمسين لهذا الخيار للتخلص من القذافي الذي جاء باريس زائرا رسميا ومحاطا بكل أنواع التكريم البروتوكولي.. بل أيضا سياسيا إذ كان أول من اعترف بالمجلس الوطني الليبي ممثلا شرعيا لليبيا وأعطاه السفارة الليبية في باريس ومكنه من الاستفادة من الودائع الحكومية. وبعد أيام قليلة على سقوط القذافي زار ساركوزي ليبيا زيارة الفاتحين بمعية رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون و«الفيلسوف» الفرنسي برنار هنري ليفي ليقطف ثمار انتصاره سياسيا. لكن صورة ليبيا اليوم وتهاوي بنى الدولة وشلل مؤسساتها وتقاتل ميليشياتها تبين بشكل صارخ صورة العمل «غير المكتمل» الذي قام به الغربيون في ليبيا وعلى رأسهم فرنسا.
بيد أن العجز الفرنسي يظهر بأبرز تجلياته في الأزمتين السورية والعراقية. وليس سرا أن الكثيرين داخل سوريا وخارجها يتساءلون عن الأسباب التي جعلت باريس تقدم في أفريقيا وتحجم في سوريا وتتردد في العراق.
السؤال مشروع إذا ما نظر إلى حجم المجزرة القائمة في سوريا منذ أكثر من ثلاث سنوات. وإذا كانت الطائرات المقاتلة الفرنسية انطلقت صوب ليبيا قبل أن تصل إلى بنغازي دبابات العقيد القذافي، فأين هي في سوريا؟ هل السبب غياب قرار من مجلس الأمن الدولي بسبب استخدام روسيا المتكرر لحق النقض بصدد أي قرار تشتم منه رائحة تدخل عسكري أجنبي ضد النظام السوري بغطاء من الأمم المتحدة؟ أم أن هناك أسبابا أخرى؟
كتب كثير حول عجز الغرب وعدم اكتراثه بالشعب السوري وعن الفروقات الكامنة بين ليبيا وسوريا لجهة التسليح والتجهيز والخوف من سقوط نظام الأسد وتمدد الإرهاب الذي يمثل تنظيم «داعش» صورته المفزعة. لكن حقيقة الموقف الفرنسي تقع في مكان آخر وخلاصته أن الأوراق التي تملكها باريس «إذا كانت تملك أوراقا» تبقى عديمة التأثير وأنها لا تلعب الدور الأول وليست مؤهلة لذلك، بل إنها طرف من بين مجموعة من اللاعبين الإقليميين والدوليين الكثير منهم أكبر وزنا وتأثيرا على الأطراف الداخلية في الصراع.
العام الماضي، بمناسبة الاجتماع السنوي للسفراء الفرنسيين عبر العالم، ألقى الرئيس هولاند خطابا قال ما حرفيته: «إن فرنسا جاهزة لمعاقبة النظام السوري لاستخدامه السلاح الكيماوي على نطاق واسع» في إشارة إلى الهجوم الكيماوي الذي استهدف صبيحة 21 أغسطس (آب) 2013 ضاحيتي دمشق الشرقية والغربية. وعلم لاحقا أن القوات الفرنسية الجوية قد أعطيت الأوامر بالاستعداد للتوجه لضرب أهداف في سوريا. لكن تراجع الرئيس الأميركي في آخر لحظة وضع الرئيس هولاند ومعه الدبلوماسية الفرنسية في موقع صعب وأظهر أن القرار ليس في باريس بل في واشنطن وموسكو. أوباما تراجع مرة أولى عندما قرر المرور بالكونغرس للحصول على ضوء أخضر للقيام بعملية «تأديبية» بحق النظام السوري لاجتيازه «الخطوط الحمراء» «أي استخدام الكيماوي». وأوباما تراجع مرة ثانية عندما انقض على المبادرة الدبلوماسية الروسية القائمة على الامتناع عن أي عمل عسكري مقابل تخلي دمشق عن أسلحتها الكيماوية. وقبل ذلك، كان ديفيد كاميرون قد أصيب بانتكاسة في مجلس العموم الذي رفض التدخل العسكري في سوريا، محطما بذلك «التحالف الثلاثي» الفرنسي الأميركي البريطاني.
بينت هذه «الحادثة» أن باريس ليست الطرف الوازن وأن المقارنة بين وضع باريس في سوريا ووضعها في أفريقيا لا تستقيم، فضلا عن أن الوضع الشرق أوسطي أكثر تعقيدا بسبب تداخل عوامل مثل النزاع العربي الإسرائيلي والدور الروسي والتركي والإيراني وبرنامج طهران النووي وانقسام العرب وقدرة النظام السوري على المقاومة وانقسام المعارضة السورية وتضارب الجهات الداعمة لها. وبسبب كل ذلك، بدت باريس ومعها الغرب عاجزين عن التأثير الفعلي. لذا كان السعي وراء حل سياسي يتمثل في مؤتمر «جنيف 2»، الذي فشل فشلا ذريعا. وبالمقابل، فإن الغربيين الذين كرروا أن لا حل سياسيا إلا مع تكافؤ القوى ميدانيا، لم يلتزموا بوعودهم بتمكين المعارضة من مقارعة النظام بأسلحة فعالة بسبب الخوف من الإرهاب ومن تسرب الأسلحة إلى «الأيدي الخطأ». لذا، حاولت باريس عبر مجلس الأمن ومجلس حقوق الإنسان والعمل الإنساني التأثير في الوضع. ولكن هذه الجهود بقيت دون النتائج المطلوبة. ولذا، لم يكن مفاجئا أن تحمل باريس مباشرة وزر الوضع الحالي لواشنطن التي تمنعت في آخر لحظة ولو أنها فعلت، فإن باريس سترى أن الأمور كانت ستتغير وأن الإرهاب الذي استقوى ما كان ليصل إلى هذا المستوى لو مكن السوريون المعارضون من الوسائل الكفيلة بتغيير الوضع لصالحهم.
وما يصح على سوريا يصح اليوم على العراق، حيث لا ترغب باريس بلعب الأدوار الأولى وتترك «الصدارة» للإدارة الأميركية وترهن أي مشاركة لها في عمل عسكري بطلب مباشر من السلطات العراقية وبقرار من مجلس الأمن الدولي وقبل كل ذلك بضمانات من رئيس الوزراء العراقي لجهة الانفتاح على كل المكونات العراقية وقيام حكومة وحدة وطنية ووضع حد لسياسات التمييز والإقصاء.
ميشال أبو نجم كاتب لبناني ومراسل صحيفة «الشرق الأوسط» في باريس ،منحه الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند وسام الاستحقاق الوطني من درجة "فارس".