على غرار المجالس الحديثة في شهر رمضان الكريم، والتي أضحت وكأنها ضرورة رمضانية اجتماعية ثابتة منذ حوالي عقد ونصف من الزمن، كما هي برامج الفضائيات؛ يمكننا من خلالها طرح قضية الدرجات والدركات في قضايا التعليم العالي. وبالطبع كلنا يعلم بأن الدرجات في الأساس، حتى في السلالم، لم توجد إلا من أجل الصعود، والدركات ما هي إلا هبوط إلى الأسفل، وندعو الله في شهره الكريم أن يبعدكم عن دركات الآخرة.
وهنا في مضمون الدرجات والدركات، وبما أن سن الشباب المتفتح والتنويري لا ينمو إلا بعد مرحلة التخرج من الثانوية العامة في وطننا العربي والإقليم الخليجي؛ فتعالوا نقف على أولى درجات التعليم العالي العربي ومنه الخليجي، ونرى إن كانت فعلاً درجات صعوداً أم هي دركات هبوطاً؟
يبرز هنا محور مهم جداً في حياة الشاب العربي والمسلم خلال السنوات الأخيرة وهو يدخل معترك التعليم العالي، وذلك إثر انتشار ظاهرة انخراط جزء لا يُستهان به من الشباب في دائرة التطرف وتكفير الناس اتكاءً على الموروث الديني الذي عنون تاريخياً باسم بعض الرجال، وبشكل مضاد لأخلاقيات ومبادئ الدين المحمدي الحنيف. وسؤال المحور يتركز في: ماذا قدم التعليم العالي عندنا للشباب حتى يخرج من بين أكمامه أمثال هؤلاء، المؤثرين مؤخراً في الساحة، سواء عبر نشر تعاليمهم الجوفاء بتكفير الناس كلهم، أو توجه السياسة باسمهم، أو إرضاءً لميولهم وفكرهم.
تجمعت أمامي أطراف هذا المحور وسؤاله وأنا أتابع ندوة «تأملات في قضايا التعليم العالي» للباحث الأكاديمي والخبير التربوي فيصل الملا بمركز عبدالرحمن كانو الثقافي مؤخراً، وذلك بمناسبة صدور وتدشين كتاب له بنفس العنوان. وكما أوضح المؤلف المحاضر، فإن «قضية التعليم العالي في الوطن العربي وصلت إلي مفترق الطرق وتحتاج إلى حزمة إجراءات إصلاحية تنهي حالة العجز التي وصل إليها». إذاً نحن أمام مشكلة عجز وليس سوء تنظيم أو تخطيط فقط لهذا التعليم. وأضاف المحاضر: «ومن هنا ينبغي أن تضع النظم العربية التعليم العالي على رأس أولوياتها، فلا تقدّم دون تعليمٍ عالٍ جيد، ولا تنمية دون تعليمٍ عالٍ جيد، ولا إصلاح دون تعليمٍ عالٍ جيد». وهنا بيت القصيد فيما نروم إليه من هذا المحور الرمضاني الذي من المفترض أن يُناقش على عدة مستويات من القمة إلى القاعدة، والبحرين ليست استثناءً من هذا، إن لم تكن هي الأولى به.
إنه لا تقدم، ولا تنمية، ولا إصلاح، لمن يبحثون عن أسباب تعثر أو فشل الإصلاح، دون تعليمٍ عالٍ جيد، وهذا لعمري تواضع من المؤلف، حين يصف المطلوب بالجيد فقط، مع أننا نبحث عن الممتاز كما يُشاع. وفي هذا السياق وللبحث عن أسباب العجز العربي ومنه الخليجي بالطبع؛ تعالوا نناقش بداية أمور بيتنا من الداخل قبل أن نرمي الآخرين بالحجارة!
أولاً نذكر فقط بأن دول مجلس التعاون تُعرف في مواقع الانترنت على أنها عدة دول تحت مسمى كتلة تجارية وسياسية، واليابان، على سبيل المثال الأكثر تطور علمياً، على أنها دولة واحدة، ويُصنف نظامها السياسي بأنها دولة مركزية، ملكية دستورية، ذات نظام برلماني. ويقدّر عدد سكان دول المجلس بحسب إحصاءات تقديرية للعام 2012 بحوالي 46 مليون نسمة، لا نعلم عدد المقيمين، والأجانب، والمجنسين بينهم بالتحديد.
والناتج الإجمالي لدول المجلس يُقدر بحوالي (تريليون ونصف من الدولارات)، فما هي النتائج العلمية والبحثية في محور التعليم العالي لهذه الكتلة التجارية والسياسية في المنطقة؟
قبل الدخول في نقاش قضية التعليم العالي في ظل تحديات العولمة والمستقبل غير المنظور لدينا جلياً عند الجامعات الحكومية قبل الخاصة، وما تبعه من الاستيراد المنبهر فقط بأنظمة الجودة والاعتماد والتصنيف، وما أفرزته نغمة وثقافة «احتياجات سوق العمل» على وضع التعليم العالي خصوصاً عند الجامعات الخاصة؛ لنقف ملياً عند محطة التعليم العالي الخليجي تحديداً، ومنه البحريني الحكومي والأهلي، تحت ظلال أزمة البحث العلمي وهي أساس التعليم العالي. ليس هذا من باب البحث عن الدركات، بل لنقرأ سوياً مرةً بعد أخرى وضع البحث العلمي عند دول وشعوب، أخالها تنظر بعطفٍ صوب التطور والتقدم العلمي الحقيقي من خلال مقاعد وطاولات ومجموعة طلبة تدفع رسوماً لتدرس ونادراً ما تبحث!
تذكر الإحصائيات أن عدد مراكز البحث العلمي في دول مجلس التعاون الواقعة خارج نطاق الجامعات تبلغ حوالي 21 مركزاً فقط، أي أقل من أربعة مراكز لكل دولة. أما داخل الجامعات فحدّث بلا حرج، وقد كانت لي تجربة مريرة في بلدي مع بعضها في الإلحاح على إنشاء مركز للدراسات والوثائق البرتغالية والانجليزية، فلم أجد آذاناً صاغية، فكيف لو طالبنا بمراكز علمية أكثر كلفة!
وللأسف، ومقارنةً مع الكيان الصهيوني، يصل الرقم هناك إلى 35 مركزاً! أما عند المقارنة مع بلد كالولايات المتحدة الأميركية، فالرقم مخجلٌ بالنسبة لنا، فهو أكثر من 1776 مركزاً، وهي تنفق اليوم على البحث العلمي أكثر من 168 بليون دولار سنوياً، أي 32% من مجموع الإنفاق العالمي، وتأتي بعدها اليابان مباشرةً بمبلغ 130 بليون دولار، أي أكثر من 24%. ومن هنا تسيطر على دولنا الولايات المتحدة سياسياً واقتصادياً وعسكرياً، وتسيطر اليابان على الأسواق والعقول علمياً. أما نحن فنسيطر على بعضنا البعض «تكفيرياً»!
وعندما نبحث عن البحرين ضمن قائمة البحوث العلمية، فنجد أننا في مقدمة قوائم مخالفة قضايا حقوق الإنسان في العالم، في مقابل قوائم ما تم صرفه من ميزانيات غير موثقة حالياً على دواعي الأمن ضمن الأزمة التي نعيشها داخلياً منذ أربع سنوات. وبالتالي فلا نجد أنفسنا في أية قائمةٍ للبحث العلمي، بينما نجد أرقاماً متواضعة جداً ضمن إحصائيات الوطن العربي لدول مثل الإمارات العربية بنسبة 6%، والكويت بنسبة 2%، لا غير.
وإذا بحثنا في الرقم الذي يذكر أن لكل مليون عربي هناك 318 باحثاً فقط ولا نعلم حتى صفتهم، فبالمقارنة مع الغرب نجد العدد يصل إلى 4500 باحث لكل مليون ومعظمهم جلية صفتهم! أما في البحرين، فالتحدي أكثر من كبير ويقف بعلو صوته ليقول لنا: أين مراكز بحوثكم المعتبرة؟ وأين إحصائياتكم عن الباحثين والبحث العلمي الرصين والمفيد لكم ولمجتمعكم، دام عزكم؟ ولمجلس رمضان بقية.
إقرأ أيضا لـ "محمد حميد السلمان"العدد 4315 - الإثنين 30 يونيو 2014م الموافق 02 رمضان 1435هـ
صح لسانك
صح لسانك يا دكتور.. مقال افضل من رائع.. بانتظار بقية مجالسك الرمضانية ان شاء الله