ما الذي يدفعنا كبشر عموماً إلى العزلة؟ وما الذي يجعلها خياراً أمثل ومتكرراً؟ كأن الحياة... الحركة... القيمة خارج تلك العزلة لا شيء فيها يدل على حياة وحركة وقيمة. العزلة من حيث هي قيمة إضافية، لا من حيث هي تعطيل للحياة والحركة في تلك الحياة.
بطبيعته وتكوينه، الإنسان مخلوق يأنس ويؤنس من حوله. حتى الوحوش إذا استكانت يأنس لها. لا يشعر بحاجته إلى الانعزال إلا إذا اضمحلّ الأنس وانمّحى. اضمحلّت القيمة في المحصّلة النهائية.
في عزلة المثقف إعادة نظر في ما هو عليه... في ما قدّمه... قيمة ما قدّمه وأثره، وذلك هو المهم. ألاّ ينشغل ويسْكرَ أيضاً لأنه قدّم ما له قيمته. كلما تناساه كلما كان أقدر على تقديم ما هو أكثر إبهاراً وأكثر قيمة.
وهو أيضاً بتلك العزلة يعيد النظر في العالم من حوله. العالم من حوله من المفترض أن يكون متحوّلاً. ما مدى تحوّله هو في ذلك العالم؟
في الضجيج والحركة يكون الإصغاء غير مكتمل ومرتبكاً، وبعبارة أخرى: ناقص. في العزلة تلك أنت تختبر الإصغاء بمجاورتك لنفسك. قليلون هم الذين يجاورون ويحاورون عبر تلك المجاورة أنفسهم.
لا أحد يُصغي لأحد في هذا العالم المنشغل بصوته. المنشغل بـ «أناه»... الأنا/الذات التي لا ترى «أنا» الآخرين. الإصغاء متعجرف ومملٌّ وسط كل ذلك ووسط كل أولئك. كأنه في مواجهة مع النشاز. هكذا يرى الإصغاءُ الأصواتَ وقد بلغت العجرفة مبلغاً ومرتقى عظيماً.
عربياً، لا تشكل الثقافة والمثقف مركز تأثير يمكن أن يُعتدَّ بها/به، تغلغلاً إلى المركز في تفاصيل الحياة والمحيط والكيان الذي يتحرّك فيه. هي في ما دون الهامش، ويتم استجلابها/استجلابه من قبل مراكز التأثير والقرار، وفي جزء كبير من التوجّه فقط لتزيين المحيط والدائرة بها/به. لا صوت له. لا مساحة إصغاء سينالها إلا بقرار أو مزاج أحياناً. وهو بالمناسبة مزاج ليس بمعناه في التوجّه الكلي والشغف بـ الإصغاء لها/له؛ إذ لا يتجاوز السانحة التي يتم توظيفها في مسار التزيين والتجميل ذاك، ضمن مسار توجّه يجد أشباهاً له في المحيط يتكرّر هنا وهناك، ضمن البيئات المتقاربة التي ترى في الثقافة والمثقفين مصادر للاستهداف ومنابع لتخريب الطمأنينة!
عزلة تدفعك إلى تدريب ما عجزتَ عنه: الإصغاء. هذه المرّة كي تُصغي لنفسك بعيداً عن العالم. كيف هي صورته؟ كيف هو عالمك بعيداً عن العالم؟
الأذُن تملُّ وتسأم، كما هو الحال مع بقية المدارك والحواس. العين تملّ هي الأخرى. حاسّة الشم تملّ وتكاد تتلاشى بتكرار ما حولها مما تشمّه. كل ذلك يُعالج من سأمه. أصعبها الأذن. أصعبه الإصغاء الذي يرتّبك للكلام، ويمنحك أناقة للدخول في ما يدهش الناس. لن يحدث ذلك وأنت منشغل بالمجاميع البشرية من حولك، ومجاميع الأشياء أيضاً!
والعزلة التي لا تخرج منها ولو بدرس الإصغاء لن تمنحك إلا مزيداً من الضجيج والثرثرة والهذيان والتورط في العبث ضمن درجاته ومستوياته السيئة والرديئة. كأنك بفشل التجربة تلك تبحث عمّا يراكم التفاهة واللاجدوى والعجرفة تلك.
إقرأ أيضا لـ "جعفر الجمري"العدد 4312 - الجمعة 27 يونيو 2014م الموافق 28 شعبان 1435هـ